مما لاشك فيه أن الرواية الفلسطينية لم تنل حظها بعد من الدراسة والمتابعة والتحليل أسوة بالشعر والقصة والمسرح علي الرغم من الدور الهام الذي تلعبه الرواية الفلسطينية في تكريس الوجود الفلسطيني وتحريض الجماهير الفلسطينية على مقاومة الاحتلال ونفض غبار التبعية ، وعلي الرغم من التفوق الفني والمضموني للرواية الفلسطينية وخصوصية هذا التفوق المتمثلة بروايات العديد من عمالقة الأدب والقصة أمثال غسان كنفاني وسميح القاسم وجبرا إبراهيم جبرا وأميل حبيبي بالإضافة إلى ال22 أديب افرد الدكتور محمد البوجى جزءا موضوعيا في دراسته ، علي الرغم من كل ذلك فان هناك قصورا فاضحا في متابعة هذه ( الخصوصية ) وإضاءة جوانبها المختلفة .
من هنا فان ظهور نقاد ودراسيين للرواية الفلسطينية والعربية أمثال د البوجي جدير بالوقوف والتحليل والتمحيص ، لأنه بادرة خير علي طريق الاهتمام بهذا الفن الخالص المتميز حتى لو كانت هذه البوادر متمثلة بدراسات جزئية لبعض الروايات الفلسطينية أو محاولات للتسجيل الوثائقي الروائي أو حتى الإحاطة بالظروف التاريخية والموضوعية التي أنجبت الرواية الفلسطينية ودخولها في آتون الصراعات الثقافية المتأثلة في عالم الثقافة والأدب .
وانطلاقا من هذا التصور فان القارئ العربي لا يسعه إلا أن يرحب بدراسات كانت علي الطريق ، بذرة لهذا الطموح الذي عبده فى فلسطين الدكتور محمد بكر البوجى ، ومن سار معه في نفس المضمار ، الدكتور هاشم ياغي والدكتور ناصر الدين الأسد وممكن اعتبار أن ثلاثتهم ساهموا في وضع حجر الأساس في دراسة التراث و الرواية الفلسطينية، واعتقد وبحيادية وموضوعية أن د البوجى هو أول من رسخها في ذهنية الأجيال الفلسطينية وخاصة ممن يعشقون اللغة العربية والروايات الشفوية التراثية فى قطاع غزة ..
ومن هنا أيضا تكتسب تلك الدراسات أهمية خاصة لأنها امتداد لولادة الدراسات النقدية المتابعة للرواية الفلسطينية والعربية المتفوقة .
ومن أهم المحطات الأدبية الروائية التي استعرضها الأديب الدكتور البوجى هو ( البحث عن الترياق في بلاد واق الواق ) للأديب عبد الكريم السبعاوي وارتأيت كقارئ للكتاب أن اعرضها
تلك الرواية يقف عندها الناقد د البوجي بكل طاقاته الفكرية والأدبية ، ويشرح فيها الكاتب معنى واق الواق ، والتي تعني الغريب بلغة السكان الأصليين للقارة الاسترالية (الأبورجينز) ، وبذلك يريد أن يوقفنا عند معاني خالدة تفيد أن الغربة عن الوطن هي السم ،يضاف إليه سم المجتمع الغربي وحضارته المادية ، وبحث الكاتب عن الترياق العلاجي لهذا السم ووضع عدة فروض للوصول إلى حل المشكلة هل هو العادات والتقاليد الشرقية ؟ أم الجنون أو الانتحار .
وفي تلك الرواية يتبلور قلق الكاتب في التحول الكبير الذي يطرأ على الأسرة الشرقية في بلاد الغرب ، وما ينتاب هذه الأسرة من صراعات بين الجيل الذي جاء من الشرق بتقاليده وثقافته ،وبين الجيل الذي ولد في بلاد الغربة وتشرب ثقافتها . .
ولتدعيم فكرة رائعته الأدبية وما تحمل من توضيح حتمي لصراع الثقافات تناول د محمد البوجي مجموعة من المواقف الأدبية الفردية شملت الأديب الطيب صالح ( موسم الهجرة إلى الشمال) و توفيق الحكيم ( زهرة العمر ، وعصفور من الشرق ) وسهيل إدريس ( الحي اللاتيني ) ويحيى حقي (قنديل أم هاشم) . ، وبين الأديب د محمد البوجى للقارئ العربي أن هذه الثلة من الكتاب وصلوا إلى نتيجة مؤداها رفض الثقافة الغربية بعد أن حاولوا الجمع بينها وبين الثقافة الشرقية ، ورغم صراع الأجيال إلا أنهم أكدوا على وجوب الحوار بين الجيل القديم والجيل الجديد
وبرجوعنا إلى نقده الموضوعي للسبعاوي تطرق الأديب البوجى للنقاط الأدبية التالية :
- التمازج بين شرف العائلة وشرف الثقافة العربية ،وهي محاولة للقطيعة بين الجيلين ،كما تصور الرواية محاولة سيطرة الجيل القديم على الجيل الجديد ، لأن كل جيل يفقد حريته بصورة مختلفة ،فالأبناء يتمردون على سيطرة الآباء ، والآباء يفقدون حريتهم من خلال الصدمة الحضارية ومحاولة الاحتفاظ بالقيم الشرقية في صدورهم
- إبراز الأزمة في الرواية على مستويين ، اللغة ، والعلاقات الاجتماعية ونلاحظ ان الأزمة الأولى حددها الراوي من خلال استخدام أكثر من لغة ،فصحى وعامية وانجليزية ولهجة لبنانية 0أما المشكلة الاجتماعية فنلخصها بقول الكاتب على لسان الجيل الجديد (إن مشكلة الآباء في هذه الديار أنهم ديناصورات منقرضة ) فالجيل الكبير هو الجيل الذي رأى الاستعمار في بلاده ،وكافح من أجل الحرية ، لكن المطاف انتهى به إلى أحضان مجتمع يمثل ثقافة استعمارية ،وهذا مصدر الأزمة على طول النص وعمقه ، إذ لاحظنا اضطرابا نفسيا لدى هذا الجيل فهو يتعامل مع أبنائه بصورة ضاغطة لا تخلو من روح قمعية. ويتلخص موقفهم في هذه الجملة التي تحمل الكثير من الأسى والمرارة (أنهم يحولون بيننا وبين أولادنا حتى لا ننشئهم على ثقافتنا )
ويشير الأديب د البوجى أن رواية السبعاوي أوصلت الصدام إلى حافة الهاوية ،فقد انتحرت أو أصيبت بالجنون معظم الشخصيات الرئيسة في النص ..
وفي خلاصة دراستنا للكتاب نرى ككتاب أن الأديب الدكتور محمد البوجى يقدم لنا دراسات نهضوية جديدة ،تحاول أن تضعنا وتهدينا إلى أول الطريق نحو المعرفة الشاملة بالتراث، والذي يمكن من خلاله أن نصارع من اجل الحفاظ على حضاراتنا ، والوقوف أمام كل المحاولات الصهيونية والاستشراقية التي تحاول طمسها ، واقصد هنا الجانب المادي والمعنوي في حضارتنا الفلسطينية عبر العصور ، وما يقدمه د البوجى ما هو إلا نوع جديد من النضال ، نضال التاريخ والثقافة والهوية ..
د ناصر إسماعيل اليافاوي
الأمين العام لمبادرة المثقفين العرب( وفاق )
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت