زمان الإسلاميين بين القبول والرفض ...

بقلم: إبراهيم عبدالله


مما لاشك فيه أن أوضاع شعوبنا العربية والإسلامية وفي قلبها الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده ، هي جزء من ( حالة الصدمة ) التي واجهتها الأمة وما تزال منذ أكثر من قرنين ، وَصَلَتْ واحدة من ذراها في سقوط فلسطين والقدس ، تعرضت خلالها إلى اجتياحات عسكرية وفكرية نجحت إلى حد بعيد في تحقيق أهدافها والتي يمكن أن نحددها في اثنين رئيسيين : الأول ، تمزيق الأمة إلى قبائل وَشِيَعٍ ودويلات بأسها بينها شديد ، لا تعرف طعما للراحة والاستقرار ، همها المحافظة على مجموعة من المكتسبات المادية والامتيازات الدنيوية البعيدة عن كل طموح ، والخالية من كل رؤية خلاقة وأي شعور بالمسؤولية الجماعية القادرة على الانجاز السياسي والحضاري . والثاني ، بعثرة الجغرافيا العربية والإسلامية كما بعثرة الفكرة المُوَحِّدَةِ للأمة . فكما تَحَوَّلَ عالمنا العربي من إقليم واحد إلى أثنين وعشرين إقليما ، من ورائها عدد اكبر من الأقاليم الإسلامية ، فقد أصبحت المرجعية الفكرية على مثل الوضع الذي آلت إليه الجغرافيا والأمة ...

إلا أن هذا الوضع المتأزم بدأ في التحلحل نوعا ما ... أعني بذلك طبعا موجات التغيير العاتية التي نجحت منذ عام تقريبا ، في العصف بأنظمة الاستبداد والفساد في أكثر من بلد عربي ، بينما لا تزال تحاول شق طريقها في دول أخرى كسوريا ...


لعل في هذا التغيير المفاجئ الدليل على القوة الكامنة في أعماق شعوب هذه الأمة ... فرغم الأوضاع التي ذكرت ، لم تفقد الأمة على مدى تاريخها الطويل والمعاصر على وجه الخصوص القدرة على مواجهة الأزمات ، حيث نشأت من خلال هذا التدافع بين الغرب ومخططاته والمسلمين ومقاوماتهم ، تيارات متباينة ، منها من جهة واحدة ، ما دعا إلى الاستسلام للغرب والتخلي عن كل الموروث الإسلامي ، ومنها من جهة ثانية ، ما دعا إلى قطع الصلة مطلقا بإبداعات العالم فكرا وحضارة ومدنية ، واللجوء إلى موروثنا الذاتي درءا للمفاسد والذي هو أولى عندهم من جلب المصالح ، فسجن نفسه في الماضي خوفا ، ومنها من جهة ثالثة ، من دعا إلى الجمع بين موروث الأمة المعصوم والحاجة الفطرية إلى التجديد والإبداع في فروع الحياة وحاجاتها ، والتفاعل الايجابي مع ما ينتجه العالم في حدود المرجعية الإسلامية الرصينة ...


لقد انتمى ( الإسلام السياسي ) كما يحلو للكثيرين تسميته في ظل الربيع العربي ووصول الإسلاميين إلى مقاليد الحكم عبر صناديق الاقتراع ، ومنه طبعا حركتنا الإسلامية في الداخل إلى التيار التجديدي الثالث ، حيث سعت الحركات الإسلامية منذ ولادتها إلى تحقيق صحوة إسلامية معاصرة ، رغم الظروف المميزة التي عاشتها وما تزال تعيشها في مواجهة التحديات الكبرى كجزء من صراع حول صياغة شكل الأمة ، فرضته داخليا علمانية استئصالية عربية ، وفرضته من الخارج قوى الاستكبار التي لطالما دعمت قوى العلمانية في الداخل بكل الطرق والوسائل ، في حربها ضد الإسلاميين ...

رغم الحرب غير المتكافئة ، ورغم الحصار المفروض لثمانين عاما على جوهرة تاج العمل الإسلامي في العالم ، حركة ( الإخوان المسلمون ) ، ورغم التضحيات والألم والدموع ، جاءت الانطلاقة منذ البداية ملبية لمجموعة قناعات ، على رأسها أولا ، الإيمان بالإسلام كقوة متحركة تحتاج من أجل التبشير بها إلى تجمع حيوي ومتحرك ، يفهم دينه على الحقيقة ، ويستوعب أساليب الدعوة وفنونها كما يستوعب الواقع وتحدياته واحتياجاته ... وثانيا ، القناعة بأن جماهيرنا المسلمة قريبة جدا من إسلامها رغم القطيعة المتوهمة بفعل الواقع ، معتزة به وفخورة بإنجازاته ومساهماته في بناء الحضارة الإنسانية لأكثر من أربعة عشر قرنا ، وهم كغيرهم بحاجة لمن يذكرهم بهذه الحقيقة وَيُجَلِّي لهم جوانب العظمة في هذا الدين الذي ينتمون إليه . وثالثا ، كشف زيف الدعاوى التي يروج لها البعض من أن التجديد والعصرنة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال العلمانية / اللادينية المطلقة .

المتابع لما يجري في تونس ومصر على وجه الخصوص من غير أن ننتقص من ليبيا أو اليمن أو سوريا ، حيث ما زالت التجربة في طور التكوين ، يرى الفرق واضحا بين التجربتين ، أو قل بين الأضداد الذين اضطرتهم الظروف لتحقيق صورة من صور العيش المشترك في مرحلة ما بعد إسقاط الطاغية الدكتاتور ... لقد نجحت تونس في تجاوز مرحلة الثورة بمعناها الاصطلاحي ، مع استمرارها من حيث الفعل الثوري الذي تحرسه مؤسسات الدولة ومن يقف على رأسها من الشركاء وإن اختلفت مشاربهم الفكرية والسياسية ... النتيجة الحتمية لهذا التوصيف هو الهدوء النسبي في البيئة الوطنية ، والصفاء الجزئي أيضا في الأجواء السياسية ، ساهمت في بنائه ثقافة تصالحية وإعلام نقي انحاز إلى مصلحة الأمة العليا ، قضيا على كل النزاعات الفئوية والعصبيات الفصائلية وبالضرورة الغايات والأهداف الشخصية . لعل حجم وثقل تونس المحدود في منظور العلاقات الدولية ، ساهم إلى حد ما في نجاح التجربة من حيث أن ذلك حماها من تدخلات أجنبية رأت في التركيز على مصر بسبب ثقلها ومركزيتها في العالم العربي والإسلامي ، أولوية تستحق استهدافها دون غيرها ، لما لنجاح التجربة فيها أو فشلها – لا سمح الله – من نتائج على مجمل المستقبل العربي ...


أما في مصر فالوضع مختلف ، حيث يكفي ما اعترفت به متفاخرة هذا الأسبوع نائبة رئيس المحكمة الدستورية في مصر القاضية ( تهاني الجبالي ) لصحيفة ( نيويورك تايمز ) من تآمر المحكمة الدستورية مع المجلس العسكري ، دليلا على عمق المؤامرة التي شاركت فيها مؤسسات دولة الرئيس المخلوع مبارك والتي تسمى ( الدولة العميقة ) ، بالتعاون والتواطؤ مع بعض القوى التي تسمي نفسها بالليبرالية ، لإفشال ( الإسلام السياسي ) من خلال ما يسمى ب - ( الانقلاب الناعم !!! ) ... الهجمة على الإخوان المسلمين وحزب العدالة والتنمية أثناء الثورة ، وقبل الانتخابات وأثناءها وبعدها ، من خلال منظومة محكمة من التحركات التي يمكن رصدها دون عناء : كحل مجلس الشعب ، حل تأسيسية الدستور الأولى والملاحقة القانونية للثانية ، الإعلان الدستوري المكمل ، تأخير الإعلان عن نتائج انتخابات الرئاسة ، تحريك قطاعات من الشعب لحصار القصر الجمهوري ولقطع طرق رئيسية وحيوية بهدف إظهار الرئيس كعاجز عن تحقيق طموحات الشعب وهو الذي لم يبدأ عمله إلا منذ أيام ، وفوق كل ذلك استمرار الهجمة الإعلامية التي وصلت حد ضخ السموم بمعدل 120 ساعة يوميا كما جاء في تقارير صحفية مصرية ، شاركت فيها أغلب الفضائيات المصرية المنتمية للتيارات العلمانية ... كلها تشير إلى جهود تبذلها قوى داخلية وخارجية هدفها إفشال تجربة الإسلاميين مهما حاولوا أن يقدموا من تنازلات تحقيقاً لعمل مشترك حقيقي ، وإقامةً لدولة مدنية قوية عادلة ... لماذا في مصر بالذات ؟؟؟ لأن مصر هي أم العرب وكنانة الله في الأرض ... نجاح التجربة الإسلامية فيها ، إيذان بنجاح المشروع والبديل الإسلامي في العالم العربي والإسلامي كله ، والذي يعني انتهاء أسطورة العلمانية الاستئصالية إلى الأبد ...

الإخوان المسلمون واعون لهذا الحقيقة جيدا ، ولذلك لن يسمحوا لقوى الظلام أن تعبث بإنجاز الشعب المصري العظيم ، الذي إن انحاز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بنسبة تجاوزت ال-51% بقليل ، فإنها إن شاء الله ستتجاوز ال-70% في الانتخابات القادمة .. لأنه لن يكون وجود للدولة العميقة ولا لفلولها ، بعد أن ينجح الرئيس محمد مرسي مع كل مخلصي مصر في بناء الدولة المدنية الحديثة والحرة والمستقلة على الحقيقة ...

بناء على هذا الفهم لحقائق التاريخ ولطبيعة النفس البشرية ، نجحت الحركة الإسلامية في تحقيق قفزات نوعية في جميع المجالات ، نرى آثارها في كل الأوساط وفي جميع التخصصات والاهتمامات ، الأمر الذي جعلها تحظى باحترام الجميع ، وأن تحتل مكانها المرموق محليا وإقليميا وعالميا ، كواحدة من الحركات الأكثر تأثيرا على المشهد العام .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت