ما عندكم ينفد وما عند الله باق ..

بقلم: الشيخ ياسين الأسطل


إلى الله مرجع الخيرات فهو المنعمُ أولاً وآخرا ، فما من أهلٍ ولا ولدٍ ولا عشيرة ؛ ولا كريمِ صحبةٍ ولا جيرة ؛ ولا حَشَمٍ ولا خَدَم ؛ ولا مالٍ به يُتَمَوَّلُ ؛ ولا لباسٍ به يُتَجَمَّل ؛ إلا وله بها على كل إنسان سبحانه الفضلُ والإفضال ، وبه سبحانه دوامُها والمدُّ بها في صغير وكبير الأحوال ، وقد ابتدأنا تعالى بجميله المُتَأَثَّلَا ، لكنَّ ما عندنا ينفدُ لولا إمدادُه جل وعلا ، وما عند الله باقٍ جزاءً مُؤَثَّلا ، ومن أمسك فالإمساكُ جزاؤه ، ومن أعطى فمن الله عطاؤه ، فمالُك ما قدمت ، ومالُ وارثك ما أخرت ، ولَكَ ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، ومن يبخل فإنما عن نفسه يبخلُ ، فالمالُ مالُ الله ، والخلق عيالُ الله ، وأنت يا صاحبَ المالِ مُستَخْلَف ، والله ناظرٌ ما أنت عامل ٌفلا تَأْنَفْ ، وما نقص مالٌ من صدقة ، واتقوا النار ولو بشق تمرة ، وما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا ، والملكان يناديان كلَّ صباح اللهم أعط منفقاً خلفا ، اللهم أعط ممسكاً تلفا ، فيا سعدَ من علم فعمل وثابر، ويا شِقْوةَ من جحد وترك وكابر ، ولنا في الأولين قدوةٌ ومِثال ، وفي الآخرين عبرةٌ وأمثال ، أفلا ننتهي عن الاغترار بزهرة العاجلة ؟! وقد علمنا أنها لابد ذابلة ، والبقاء إنما يكون في الآجلة ، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه ، ما ضاع عُرفٌ بين الله والناس .

إخوة الإسلام والإيمان: قال الله تبارك وتعالى في سورة النحل : { وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) }.

يقول الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان] :( ..يحذر تعالى عباده من نقض العهود والأيمان لأجل متاع الدنيا وحطامها ، فقال: { وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } تنالونه بالنقض وعدم الوفاء ، { إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ } من الثواب العاجل والآجل لمن آثر رضاه، وأوفى بما عاهد عليه الله { هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } من حطام الدنيا الزائلة { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ، فإن الذي عندكم ولو كَثُرَ جداً لا بد أن { يَنْفَدُ } ويفنى، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } ببقائه ، لا يفنى ولا يزول، فليس بعاقل من آثر الفاني الخسيس على الباقي النفيس ، وهذا كقوله تعالى: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } ، وفي هذا الحثُّ والترغيبُ على الزهد في الدنيا - خصوصاً الزهدُ المتعينُ - وهو الزهدُ فيما يكون ضرراً على العبد ، ويوجب له الاشتغالَ عما أوجب اللهُ عليه وتقديمَه على حق الله ، فإن هذا الزهدَ واجب ، ومن الدواعي للزهد أن يقابل العبد لذاتِ الدنيا وشهواتها بخيرات الآخرة ؛ فإنه يجد من الفرق والتفاوت ما يدعوه إلى إيثار أعلى الأمرين ، وليس الزهد الممدوح هو الانقطاعَ للعبادات القاصرة كالصلاة والصيام والذكر ونحوها ؛ بل لا يكون العبد زاهداً زهداً صحيحاً حتى يقوم بما يقدر عليه من الأوامر الشرعية الظاهرة والباطنة ومن الدعوة إلى الله وإلى دينه بالقول والفعل فالزهد الحقيقي هو الزهد فيما لا ينفع في الدين والدنيا والرغبة والسعي في كل ما ينفع .{ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا } على طاعة الله ، وعن معصيته ، وفطموا نفوسهم عن الشهوات الدنيوية المضرة يدينهم ، { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، الحسنةَ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ولهذا ذكر جزاء العاملين في الدنيا والآخرة فقال : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، فإن الإيمان شرطٌ في صحة الأعمال الصالحة وقبولها ؛ بل لا تسمى أعمالا صالحة إلا بالإيمان والإيمانُ مقتضٍ لها ، فإنه التصديق الجازم المثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات ، فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ، وذلك بطمأنينة قلبه ، وسكون نفسه ، وعدمِ التفاته لما يُشَوِّشُ عليه قلبَه ، ويرزقُهُ اللهُ رزقاً حلالاً طيباً من حيث لا يحتسب ، { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } في الآخرة { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } من أصناف اللذات ، مما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشر ، فيؤتِيْهِ اللهُ في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة ) أهـ .

عباد الله ، يا أهل التوحيد والسنة والجماعة:لأجل هذه المعاني العظيمة رغب الإسلام في الآخرة ، وجعل الدنيا معبراً ووسيلةً إليها ، وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجة - وصححه الألباني- وأحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان واللفظ لابن ماجة قال حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَمْرٍو الْقُرَشِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : ( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ " ) اهـ .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من بعده من أشد الناس زهداً في الدنيا وقد أتتهم راغمة ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في مسند أحمد والبيهقي في الشعب قال أحمد :حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِصْرَ يَقُولُ : ( مَا أَبْعَدَ هَدْيَكُمْ مِنْ هَدْيِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا هُوَ فَكَانَ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَرْغَبُ النَّاسِ فِيهَا ) اهـ .
وهؤلاء أصحابه رضي الله عنهم ، فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه للتابعين يصف إخوانه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم فيما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه قال حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ عُمَارَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ :( أَنْتُمْ أَكْثَرُ صِيَامًا وَأَكْثَرُ صَلاَةً وَأَكْثَرُ جِهَادًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ ، قَالُوا : لِمَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟! قَالَ : كَانُوا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا وَأَرْغَبَ فِي الآخِرَةِ ) .
أيها المسلمون يا عباد الله :
ومن زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وإقباله على الآخرة:
* أن الله خيره في مبتدئ مبعثه بين أن يكون نبياً ملكاً وبين أن يكون عبداً رسولاً ، فاختار أن يكون عبداً رسولا ، وفي مسند أحمد وأبي يعلى الموصلي وصحيح ابن حبان واللفظ لأحمد قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : ( جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ ، قَالَ أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا ؟! قَالَ جِبْرِيلُ : تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ . قَالَ : " بَلْ عَبْدًا رَسُولًا " اهـ .

* ومن زهده صلى الله عليه وسلم أن الله خيره في مرض موته بين الدنيا وزهرتها وبين ما عند الله فاختار ما عند الله :
فقد روى البخاري والترمذي وابن حبان وهو في شرح السنة للبغوي قال البخاري : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدٍ يَعْنِي ابْنَ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَعَجِبْنَا لَهُ وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلَّا خُلَّةَ الْإِسْلَامِ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ " اهـ .

عباد الله أيها المؤمنون:من المواعظ في الزهد ما جاء في وصف زهد الصحابة مما وصفهم به الحسن البصرى الذي لقي أكثر من سبعين من الصحابة رضي الله عنهم وقد رواه في المجالسة والعلم أبو بكر الدينوري قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ، نَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحُلْوَانِيُّ ، نَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ ، عَنْ عَوْفٍ ، عَنِ الحسن ؛ قَالَ : تَكَلَّمَ الْحَسَنُ يَوْمًا كَلَامًا ، فَقَالَ : قَدْ مَاتَ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ ؛ فَمَاذَا تَنْتَظِرُونَ ؛ فَقَدْ أُسْرِعَ بِخِيَارِكُمْ ، فَمَاذَا تَنْتَظِرُونَ ؛ آلْمُعَايَنَةُ ؟ فَكَأَنَّ قَدْ . هَيْهَاتَ ! هَيْهَاتَ ! ذَهَبَتِ الدُّنْيَا وَبَقِيَتِ الْأَعْمَالُ أَطْوَاقًا فِي أَعْنَاقِ بَنِي آدَمَ ؛ فَيَا لَهَا مِنْ مَوْعِظَةٍ لَوْ وَافَقَتْ مِنَ الْقُلُوبِ حَيَاةً ! إِنَّهُ وَاللهِ لَا أُمَّةَ بَعْدَ أُمَّتِكُمْ ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا كِتَابَ بَعْدَ كِتَابِكُمْ ، إِنَّكُمْ تَسُوقُونَ النَّاسَ وَالسَّاعَةُ تَسُوقُكُمْ ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ أَوَّلُكُمْ أَنْ يَلْحَقَ بِآخِرِكُمْ ، مَنْ رَأَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَقَدْ رَآهُ غَادِيًا رَائِحًا لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَلَا قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ ، رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ . عِبَادَ اللهِ ! فَالْوَحَاءَ الْوَحَاءَ ، النَّجَاءَ النَّجَاءَ ، عَلَامَ تعرّجون ؛ أليس قد أُشرع بِخِيَارِكُمْ وَأَنْتُمْ كُلَّ يَوْمٍ تَرْذُلُونَ ؟ ! لَقَدْ صَحِبْتُ أَقْوَامًا كَانَتْ صُحْبَتُهُمْ قُرَّةَ الْعَيْنِ وَجَلَاءَ الصُّدُورِ ، وَكَانُوا مِنْ حَسَنَاتِهِمْ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ أَشْفَقُ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ أَنْ تُعَذَّبُوا عَلَيْهَا ، وَكَانُوا فِيمَا أَحَلَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا أَزْهَدَ مِنْكُمْ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْكُمْ ، إِنِّي أَسْمَعُ حَسِيسًا وَلَا أَرَى أنِيْساً ، ذَهَبَ النَّاسُ وَبَقِيَ النَّسْنَاسُ ، لَوْ تَكَاشَفْتُمْ لَمَا تَدَافَنْتُمْ ، تَهَادَيْتُمُ الْأَطْبَاقَ وَلَمْ تَهَادُوا النَّصَائِحَ .

وقال الدينوري أيضاً: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ، نَا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا ، نَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، نَا خُزَيْمَةُ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَنَّ رَجُلا أَتَى بَعْضَ الزُّهَادِ ، وَقَالَ لَهُ الزَّاهِدُ : مَا جَاءَ بِكَ ؟ فَقَالَ : بَلَغَنِي زُهْدُكَ فَأَتَيْتُكَ . فقال : أوَ لا أَدُلُّكَ عَلَى مَنْ هُوَ أَزْهَدُ مِنِّي ؟ قَالَ : وَمَنْ هُوَ ؟ قَالَ : أَنْتَ . قَالَ : وَكَيْفَ ذَاكَ ؟ فَقَالَ : لأَنَّكَ زَهَدْتَ فِي الْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا وَبَقَائِهَا ، وَزَهَدْتُ أَنَا فِي الدُّنْيَا عَلَى فَنَائِهَا وَقِلَّتِهَا وَذَمِّ اللهِ إِيَّاهَا ؛ فَأَنَا زَهِدْتُ فِي الْقَلِيلِ ، وَأَنْتَ زَهَدْتَ فِي الْكَثِيرِ .

أيا المسلمون ، يا أهل فلسطين : فلنحذر التنافس على حطام الدنيا ، فإنها المهلكة ، وإنها الفضيحة يوم القيامة ، فقد روى البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد واللفظ للبخاري قال: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ ثُمَّ قَالَ أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ " اهـ .

بقلم / الشــيخ ياســين الأســطل

الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
بالمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت