في الذكرى الأربعين لاستشهاد الأديب المناضل الكبير/ غسان كنفاني، وفي حضرته وحضرة الشهداء العظام الحكيم وأبو علي ووديع وجيفارا غزة والقافلة الممتدة من سليل الشهداء الأوائل الزير وجمجوم وحجازي، تعجز الكلمات، وتتلعثم الألسنة، ويخيم الصمت، وإن تبقى لنا من الكلام ما يقال، فلن يكون سوى تعبير عن عجزنا، وقلة حيلتنا، وقصر هاماتنا التي تنحني إجلالاً وإكباراً لهم، لنضالهم، لعطائهم، لتضحياتهم، لاختيارهم طريقة موتهم وتجددهم المستمر في الحياة.
فغسان الذي التحم بقضية شعبه الفلسطيني وأمته العربية، حد الانصهار، وعبّر عن ذلك بالتحاقه يافعاً بصفوف حركة القوميين العرب ومن ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليؤكد أنه لا تعارض بين أن تكون مثقفاً أو كاتباً أو روائياً وأن تكون سياسياً ملتزماً، مؤمناً في مسألة بناء الحزب الثوري على أساس النظرية العلمية القادرة على قيادة الجماهير الفلسطينية الكادحة، حيث لم يفوت فرصة واحدة بعد انتقاله لمواقع التحليل الماركسي اللينيني؛ إلا وكان داعياً مبدئياً للحزب وضرورته التاريخية واشتراط انتصار الثورة بوجود هذا الحزب.
فغسان لم يكن مثقفاً، أو قاصاً أو روائياً أو سياسياً عادياً، بل أحد ميزاته الرئيسية أنه كان مثقفاً ثورياً، ومحرضاً سياسياً " لا تمت قبل أن تكون نداً "، " احذروا الموت الطبيعي "، " خيمة عن خيمة تفرق ".
لقد أدرك مبكراً جدلية العلاقة بين المثقف والسياسي، فحسم أمره فكان صوت الثائر، وهدير البنادق، ووجع المخيم، ونصير الفقراء، وأحلام الطفولة، وفي هذا يقول "لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل، ثم بالعائلة، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة، وكان دائماً يعوزني الانتساب الحقيقي. ذلك الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم فقم. أعرفته؟ وكان الاحتيال يتهاوى، فقد كنت أريد أرضاً ثابتة أقف فوقها، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء".
في حضرة الغياب، وبعد أربعين عاماً على الرحيل، لا يزال غسان حاضراً بيننا في الزمان والمكان مع برقوق نيسان، ورجال في الشمس، وعائد إلى حيفا، وأم سعد، والنبي والقبعة، ومسرحية الباب، والعشرات من أعماله الأدبية وكتاباته السياسية، والوجع الفلسطيني والعربي الممتد والمستمر منذ ما يزيد عن مائة عام.
لقد أرادوا القضاء على غسان بالطريقة البشعة التي اغتالوه بها مع ابنة أخته، وصغيرته المحبوبة لميس، فهل تحقق لهم ذلك؟ أربعون عاماً من الغياب الجسدي، هل رحل غسان فعلاً؟ أم تجذّر حضوره اليوم أكثر؟ هل كان حقاً كما وصفته غولدا مائير رئيسة وزراء دولة الكيان الصهيوني التي أمرت باغتياله: "أخطر على إسرائيل من كتيبة من الفدائيين"؟ كيف لا وهو القائل: إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح.. وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه". فما كان قرار اغتيال هذه "المؤسسة" أو "الكتيبة" مفاجئا، إن كانوا سيضربون بذلك ألف عصفور بحجر، أو بعبوّة ناسفة.
وعليه هل بدأت حياة غسان مع لحظة اغتياله أم بدأت فعلاً من اللحظة التي أدرك بها أنه "بالدم يكتب لفلسطين". وهكذا افتتحت به إسرائيل سلسلةَ اغتيالاتها لمثقفين فلسطينيين كانوا الأخطر عليها، فكانت 9 كيلو غرام من الـ TNT شديدة الانفجار كافية لأن تجعل من غسان "رياديا"، حتى في طريقة اغتياله.
إن قراءتنا لغسان تجعلنا نكتشف، أولاً ودائماً، أنه في عمق وعيه كان يدرك أن الثقافة أصل، من عدة أصول للسياسة، وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي. لذلك كان المسعى الأهم لبحوثه الأدبية والسياسية هو ذلك المتمثل في ترسيخ أسس ولادة الفلسطيني الجديد، لجهة البحث عن الإنسان المجرد والفلسطيني المجرد والاقتراب من الإنسان الفلسطيني الذي يعي أسباب نكبته ويدرك أحوال وطنه العربي ويعرف أكثر ماهية الصهيوني الذي يواجهه. وهذه المهمة لا تستطيع أن تقوم بها إلا ثقافة في مفهومها النقدي، متجاوزة لما هو سائد، وتقطع مع القيم البالية.
فرغم حياة غسان كنفاني القصيرة، إلا أنه كان أنموذجاً طافحاً لحالة الشغف والعشق المستمر. نستطيع الانتهاء إلى هذا الاستنتاج من خلال العديد من التفاصيل المتفرقة، التي نلتقطها في الحياة اليومية لغسان، كما من ذلك التناثر الجميل على العديد من الأنساق الإبداعية التي جرَّبها، من القصة القصيرة، إلى الرواية، إلى المسرح، إلى الفن التشكيلي، وربما الشعر.. ومن البحث والدراسة، إلى النقد الأدبي، إلى الكتابة الصحفية والتحليل السياسي، إلى الكتابة الساخرة.. ففي سِفر الحكاية الفلسطينية لا يموت العاشق، حيث يُبقي وصال عشقه ممتداً.. متجدداً .. متعطشاً دوماً للاستمرار .. فالمناضل الجيد عاشق جيد بالضرورة... حينها تصبح مسألة الموت والحياة سيان، وتحضر صرخة غسان فينا: ليس المهم أن يموت أحدنا..المهم أن تستمروا ...
نعلم يا غسان بأنك تتألم في حضورك اليومي بيننا، خاصة بعد ما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من احتراب وانقسام سياسي، وصراع لم يكن إلا على "سلطة وهمية"، صنعها الأعداء لنتلهى بها عن صراعنا التاريخي والشامل معهم، ومن مصالحة سموها وطنية باتت مراسم تحققها تُشيّع إلى مقبرة الذبح المستمر للقضية تحت وقع مصالح ومغانم طرفي الانقسام والمصالحة في آن.
كَتبتَ قديماً.. بنظرة المثقف السياسي الثاقبة "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية". لقد فشلوا بامتياز في الدفاع عن أعدل قضية على وجه الأرض يا غسان، ولا زالوا ذاتهم "المدافعون الفاشلون" يمسكون بالموقد، ويطيحون كل يوم بالتاريخ والجغرافيا والإنسان، وكل ما تبقى لنا، ففي قاموسهم أصبحت المفاوضات حياة، والمقاومة متهمة أو مشبوهة برسم الاتفاق، وموقوفة في اللهث وراء التهدئة، وتقييد العقل والحريات ركيزة لسلطة فقدت شرعيتها منذ أن أوغلت في دماء شعبها، وتطبيقاً لقاعدة أننا رعايا ومسؤولين من الراعي، فهم لا يدركون قولك: "أن الكفاح الفلسطيني لن يكون مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حُررت إراداتهم وعقولهم"، بل أكثر من ذلك يا غسان، فهم يسحقون العدالة بحقارة كل يوم، فالغني ازداد غنى، والفقير ازداد فقراً، ولم يعد متسعاً للحياة، فأنذرتنا مبكراً بأن "ندق جدارن الخزان"، وبأن الثورة وحدها هي المؤهلة لاستقطاب الموت.. الثورة وحدها هي التي توجه الموت.. وتستخدمه لتشق سبل الحياة، والثورة المؤهلة... تحتاج لحزبها المؤهل أيضاً، وشروط الأُهلية التي أسست لها أنت وجيل الرواد الأوائل.. القاعدة الفكرية الرصينة، والخط السياسي الواضح، والبنية التنظيمية المتينة والنظيفة والديمقراطية والمتجددة، لذلك لم يخدعكم الدليل بأن حزب كهذا عماده الفقراء والعمال والكادحين والمثقفين الثوريين والفئات المستغلة. حزب للمستقبل يزرع جنة الأرض حريةً واستقلالاً وعدالةً ومساواة وتقدم "فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة".
غسان كنفاني... ستبقى دوماً الإنسان الكريم، والفلسطيني النموذجي الذي انتهى كما أراد. ولم يصل إلى ما أراد أن يصل إليه، إلا لأنه كان إنساناً حقيقياً، قبل أن يكون فلسطينياً يحفظ، عن ظهر قلب، مفردات الشرف والكرم والعدالة، ويحوّل المفردات كلها إلى مقاومة وطنية، تبدأ بفلسطين، وتنتهي إلى أحلام أخرى.
يبقى لك علينا حق حفظ البقاء، والاستمرار بقرع جدار الخزان، وأن تبقى الثورة جزء لا ينفصم عن الخبز والماء وأُكف الكدح ونبض القلب، وصولاً للحرية التى لا مقابل لها سوى الحرية نفسها. دمت ودامت فلسطين.
-----------
* عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مسئول اللجنة الثقافية في فرع غزة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت