سلمي ابنة المخيم تعود (قصة من الواقع الفلسطيني)

بقلم: ناصر إسماعيل اليافاوي


كانت أجواء المخيم حارة في حزيران عام 1967م ، واعين اللاجئين تراقب التحركات العربية من الغرب تجاه البحر، أو من الشرق أو إلى السماء ، ينتظرون هذا الفارس العربي المخلص من الموت والخوف والنقص في الثمرات والأنفس ..

بينما كان المقاتل الفلسطيني أبو صامد يستمع إلى صوت العرب، وتطور العدوان الصهيوني على الأمة العربية سمع صراخ زوجته عائشة ، وهى تصرخ من آلام المخاض ، فأسرع أبو صامد إلى الداية (القابلة) حليمة الساكنة ليس ببعيد عن حارته المتلاصقة بالحارات ال12 الأخرى في المخيم ، ومع انعدام المراكز الصحية في المخيم أحضرت الداية حليمة بابور الكاز اليتيم ، وأشعلته ، وسخنت عليه قليل من الماء لزوم التعقيم والتحضير لولادة عائشة ..

وبعد معاناة لا يعلم بها إلا الله ثم عائشة ، تضع الأم مولودة أنثى ، وتخرج الداية على استحياء لتزف الطفلة إلى المقاتل أبو صامد ، الذي وبلا شك فرح كثيرا ، لأنها مولودته الأولى ، وسجد لله وحمده وقال هى ( سلمى )
التي انتظرتها طويلا ، سلمى تعنى الأرض – تعنى الحلم – تعنى الأمل – تعنى المستقبل الفلسطيني ، المتشبث كشجرة الأثل في فلسطين - في يافا وحيفا وعكا واللد والرملة ..
بكت الداية وزوجته عائشة من هذه الكلمات الخالدة التي نطقها أبو صامد دون تكلف وتصنع ..

عاشت سلمى في زقاق المخيم تلهو بدماها الطينية والخشبية ، وبعض ما نسجته أمها من دميات قماشية ، حتى أصبحت في العقد السادس من عمرها ، في الحين الذي كان المقاتل ابوصامد يخرج في الليل ليرابط في منطقة المخيم الشرقية ليتصدى لهجوم محتمل يشنه غربان الظلام على المخيم ، وحدث المتوقع واستشهد المقاتل ، وودعته عائشة وسلمى ، بقبلة على جبينه الأسمر ، بعدها سبل أبو صامد عيونه ، ووري جثمانه الطاهر في مقبرة الشهداء في المخيم .
ترعرعت سلمى ببيتها الثوري وكبرت ، وكبر معها حلم العودة والمقاومة لاسترداد حقها المسلوب ..

أدرك المحتل مدى خطورة سلمى لما تحمله من أفكار ثورية ، وضيق سبل العيش عليها ، وعلى أمها ، ولاحقها حتى في لقمة عيشها ، وتعرضت للاعتقال والتعذيب أكثر من مرة ، ولاقت سلمى وأمها شظف العيش .

تزاحمت الأفكار الثورية في ذهن سلمى وفى عام 1982 م ، قررت الهروب من مخيمات غزة إلى مخيمات لبنان ، واعدت لذلك كثرا ، وبالفعل نجحت في إقناع احد الصيادين المخلصين الشرفاء الأمناء ، وحملت قليل من أمتعتها وصورة أبيها الشهيد ابوصامد مع أمها التي فارقت الحياة بعد صراع مع الهم والفقر والمرض والفكر ،وبعد رحلة عناء طويلة وزيارة العديد من السجون العربية وصلت سلمى ..!

وصلت إلى مضارب الثورة الفلسطينية في لبنان – جنوبه ومخيماته - وهناك التحقت بصفوف الثورة ، وتدربت في قواعدها وقلاعها ، وشاركت في قتال جيش البرابرة ،وحلفائهم ابان العدوان الصهيوني على جنوب لبنان وحصار بيروت ، وشهدت مع الثورة كل مراحلها ، وتنقلت مع قادتها في أصقاع الوطن العربي ، وذاقت طعم الهجرة مرات عديدة ، وشدها الحنين مرات إلى غزة ..

وبطبع الفدائي الذي يحمل روحه على راحته ، ترقبت فرصة تقتنصها للعودة إلى تراب مخيمها في غزة ، ولكن هذه المرة مهمتها صعبة للغاية لأنها أصبحت أم لصبية اسمها بيسان ، وشاب اسمه عائد ، كانت قد أنجبتهم من زوجها الفدائي (ثائر) احد أبطال مخيم صبرا في لبنان والذي استشهد أثناء الدفاع عن المخيم ..

جلست سلمى مطرقة رأسها ، والأفكار تتلاعب في مخيلتها ..
أحست ابنتها البكر بيسان بها ، وبادرتها الحديث :
أرى الفدائية سلمى تفكر بحدث جلل .!

فتبسمت سلمى ابتسامة الثائرة ، وقالت نعم يا حبيتي، اشتقت إلى مخيمات غزة ، اشتقت لزيارة قبر أبي وأمي ، وأفكر بطريق العودة الأولى وصولا للعودة الأخرى ..

بيسان : كيف يا أمي وغزة محاصرة .

سلمى : كما غادرت المرة الأولى ، وسط الصعاب والموت ، سأصل في المرة الثانية ..

وفى الثانية .... وبعد رحلة عميقة في بحجر الذكريات ، أمرت سلمى أبنائها لتحضير أمتعة خفيفة ، وقيل من الطعام ، ما يكفى للطريق ، وصلت بعد أيام معدودة إلى منطقة رفح الحدودية مع غزة ، وبتصرف الفدائي سألت عن الأنفاق ، واهتدت إلى احد عاملي الأنفاق في الجانب المصري ، وهبطت برحلة أخرى بعمق 30 متر ، واتجهت شمالا مساحة 150 متر ، وصعدت مرة أخري 30 متر لتتنفس بعد أكثر من ثلاثين عاما هواء غزة من جديد ..

الله .. أنها غزة..أنها بقعة من الوطن .... ولكن ...!!

انه لست الهواء النقي التي كنت اشتمه قبل أكثر من ثلاثين عاماً ..

آه يا بني نسيت ، انه ملوث برياح انقسام خبيثة ، تهب إلينا من جبهات باردة لم نتعود عليها من قبل ..

انحت سلمي تقبل ارض غزة المخضبة بدماء الشهداء ، لأنها هى الوحيدة التي تزال نقيه ، وانطلقت من رفح مسرعة نحو أبواب مخيمها الأم ، ولا زالت حتى اليوم هناك ، تنتظر حتى الآن حلم ( الوحدة والمصالحة والعودة) ..

تعددت الأهداف لدى سلمى فهل ستتحقق .. د ناصر اليافاوي الأمين العام لمبادرة المثقفين العرب لنصرة فلسطين ( وفاق)

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت