ها أنت في حيفا..في فلسطين..ماهو شعورك؟ تجاهلت السؤال وتمنيت لو أن الصديق الذي أحضرني من رام الله الى حيفا , يتفهم تجاهلي ولا يكرر ..ولكنه فعلها وفضح اجابتي المكتومة : بماذا تشعر؟؟ لاشيء. أليس كذلك؟؟ لذت بالصمت فكان اقرارا بالاجابة التي تبرع بها...ضحك الصديق منتشيا بخبرته التي تعرف اجابات القادمين الى فلسطين لأول مرة ..وشعرت بالحرج , بل وشعرت بأن وطنيتي تتعرض لفضيحة كبرى ...حلم منذ الطفولة يتناثر الأن على حقيقة غنية بالجمال , ولكن الروح لاتنجذب لأكثر من المقاييس المكتسبة ازاء فتنة الطبيعة...شعور بالحياد...لاشيء يشدني ..والعلاقة بالمكان تشبه علاقتي بأماكن في بلدان أخرى زرتها , لم أشعر بالحنين ولا بشوق ينفجر زاحفة شظاياه على الماء والتراب والعشب...ولدت خارج فلسطين وتربيت على حبها وهاهي الأن , للحظات , بين يدي . ..فأزهد بالعناق..وأبخل بالدمع...ماهذا البرود؟؟
زرت معظم مدن الضفة الغربية وزرت حيفا والناصرة وقضيت يومين متنقلا في قرى يسكنها أقاربي , ولكن مشاعري كانت محيرة, بالنسبة لي على الأقل, في رام الله الرابط كان الأصدقاء فقط ...والمكان رأيت فيه مزيجا بين عمان واربد...أما المشاعر الحميمة الى درجة الدمع فكانت في أماكن ثلاثة : في المسجد الأقصى وفي الحرم الابراهيمي وفي قرية أبي وأجدادي المدمرة والمهجرة..عدا ذلك لم أشعر بعلاقة مع المكان ..سوى الاعجاب في أحيان كثيرة بالطبيعة وهو الاعجاب الذي شعرت به في أماكن عديدة من العالم.
في الحرم الابراهيمي...كدت أفقد صوابي أمام الانتهاك على مدار اللحظة, جنود الاحتلال حول الحرم وفي داخله , مشاهد تستفز المشاعر . وشعور بالذل وبالعار...في المسجد الأقصى لاتدخل الا من بين الجنود الاسرائيليين ..انه مكبل, فهم على كل بوابات الحرم , شعور بالقهر وبفظاعة الاحتلال..وفي المكانين المقدسين شعرت حقا بروابط عاطفية وروحية عميقة .كنت ممتلئا بالحب الكامل..
أما في قرية الأب والأجداد , الحدثة , على بعد عشرين كيلو مترا من طبريا , فقد توجهت مع أقاربي الذين ظلوا في فلسطين مهجرين في قرى ومدن أخرى , توجهنا الى الحدثة...أمنا جميعا , أبلغوني أنني لن أجد سوى عين الماء والمقبرة وأشجار الصبار , قرأنا الفاتحة على جذورنا في المقبرة ..وتوجهنا الى العين فاستفزني وجود شابين يهوديين يستحمان في حوض العين ...توترت وأبلغت أقاربي أنني سأتولى طردهما من المكان , فتقدم أكبرنا سنا وتحدث معهما بالعبرية لعدة دقائق , فارتديا ملابسهما وغادرا المكان على الفور , فهمت منه أنهما جنديان اسرائيليان أحدهم جاءت عائلته من المغرب والأخر من جنوب افريقيا , وأنه أبلغهما بأنني قادم لزيارة قرية أبي واجدادي لأول مرة ولاأطيق رؤيتهما في المكان , وقد دهشت لانسحابهما الهادىء ولنظراتهما المحايدة....
استمتعت بالماء العذب المتدفق من النبع , كل قطرة منه مشبعة بحكايات الأجداد وواعدة باستئناف الحياة على ارض قريتي , أما أشجار الصبار المثقلة بثمار لم تنضج , فلم ينجح الغزاة في ازالتها كما نجحوا في ازالة أشجار الزيتون , فظلت صابرة مخضرة معطاءة بانتظار عودة أثق اليوم بأنها أتية لاريب .
المقبرة-الجذور , ونبع يتدفق بسخاء , وصبار أخضر بشوك وثمار ...هذا ماتبقى من قريتي وهو يكفي لمواصلة عشقها ودوام حلم العودة اليها.
بالرغم من ايقافي لساعة ونصف الساعة على جسر الملك حسين , وحضور ضباط اسرائيليين بمعدل ضابط كل ربع ساعة لتوجيه سؤال. فانني لم أشعر بالاهانة ولابالملل ولا بالغضب ...هل لأنني اعتدت على معاملات أقسى من هذه على الحدود العربية؟؟ أم لأن الصورة الذهنية لدي عن الاسرائيليين جعلتني مستعدا لأي شيء؟ أم لآن زيارة فلسطين تستحق الصبر على الأذى؟
قالو لي : انتظر من فضلك , ثم حضر ضابط وسألني: هل ترغب في زيارة تل أبيب؟ قلت : لا فقال شكرا , وبعد ربع ساعة حضر ضابط أخر , وسأل :هل ترغب في زيارة القدس؟ فقلت : ربما , فشكرني وانصرف, ثم حضر ضابط ومجندة وسألني الضابط:أنت حضرت مع عدد من الصحفيين العرب وجميعهم قالوا أنهم يرغبون في البقاء لأربعة أيام بينما طلبت أنت أسبوعين ..هل من تفسير؟ قلت : لدي أصدقاء وأقارب وبالكاد تكفيني هذه الفترة. شكرني وغادر ثم عادت المجندة ومعها جواز السفر وعليه تاشيرة دخول تسمح لي بالاقامة لثلاثة شهور,واعتذرت عن التأخير... حتى الأن تبدو لي الأسئلة سخيفة وغير متوقعة , وقد تكون فائقة الذكاء ,وتبدو لي المعاملة أقل قسوة ..فلا أرغب بالقول أنها لطيفة ..فلا يمكن اعتبار الاحتلال لطيفا في أية حال.
مازلت حائرا ازاء مشاعري الجامدة تجاه باقي فلسطين ..الضفة الغربية رأيتها امتدادا في التضاريس والعمران لضفة النهر الشرقية , ومشوهة بمنالطق ألف وباء وجيم وفلسطين التاريخية كلها بدت لي كجسد تعرض لعمليات جراحية على يد جراح عابث احمق..عرب ويهود..حضارتان وثقافتان مختلفتان..قرى عربية أصيلة ..ومستوطنات على النمط الغربي...هل يمكن التعايش الى الأبد؟ وهل يمكن التصارع الى الأبد؟
وتظل المشكلة في مشاعري...وأخشى على أولادي وأحفادي ,,فقد أتيحت لي فرصة سماع حكايات الأب والجد فقد ولدا في فلسطين وعاشا فيها حتى النكبة ..فمن سيروي لأحفادي حكايات فلسطين؟
وكيف يمكن ربط الأجيال الفلسطينية القادمة بأرض الأجداد ..بوطن الشعب الفلسطيني؟
أعتقد أن علينا تنمية وتوسيع ونشر ثقافة الارتباط الديني الاسلامي والمسيحي بفلسطين , دون تنكر أو عداء للارتباط اليهودي المعتدل . وأتمنى بلورة استراتيجية وطنية بأليات واضحة لربط الأجيال القادمة بفلسطين ..ربطا روحيا يقوم على العاطفة الدينية وليس على التعصب الديني , ومايجعل اليهودي يشعر بانجذاب عاطفي لفلسطين بعد أكثر من ألفي سنة من فناء الكيان اليهودي قصير العمر هو السحر التوراتي والأسطورة الدينية التي نميت وضخمت وجرى استغلالها....
وفي اعتقادي أن سورة الاسراء , والأحاديث النبوية الشريفة ,وسيرة المسيح ينابيع لاتنضب لتغذية عواطف الأجيال القادمة بمحبة فلسطين.
قبل سنوات , استمعت لشيخ مقدسي يخطب في حجاج فلسطينيين على جبل عرفات:" نحن الفلسطينييون سدنة المسجد الأقصى الى يوم القيامة" ..وسمعت عظة لكاهن مسيحي في كنيسة: " أيتها الفلسطينية مريم...يايسوع الفلسطيني....شعبكم في عذاب" ...
عنوانان صالحان لتأسيس تربية وتوعية للأجيال القادمة ..كي لاتفاجىء المكان الفلسطيني بالبرود, وكي يبقى الوعي الوطني متوهجا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت