لقد كدت ولمرات عديدة، أن أفقد إيماني بشفافية أداء وأهداف وصواب نهج ربيع التغيير العربي، وذلك لكثرة ما كتب من مقالات تتحدث عن انعكاس نظرية الفوضى الخلاقة التي تبناها المحافظون الجدد في أمريكا في ذاك الحراك الجماهيري، وما تردد من أنباء عن حراك أوربي أمريكي منافق دجال ودعوة مشبوهة غير صادقة للتغيير وإدخال للديمقراطية هنا أو هناك من بقاع أرض العروبة، لكن رشدي وبحمد الله ولطفه سرعان ما يعود لي، فأزداد إيماناً بربيع التغيير العربي وحتمية ما ينشده أبناء العروبة في ضرورة اجتثاث جذور الطغمة الفاسدة الحاكمة التي أرهقت واقعنا العربي عقوداً طويلة، وأثقلت كواهل أبناء أمتنا العربية وغيبت قسراً إرادتهم وحجـّمت من قدراتهم، ليعود مشهد ربيعنا العربي من جديد إلى طهارته ونقائه مما علق به من تشويه متعمد قام به إعلام غربي ممنهج خبيث سانده في مهمته تلك إعلام عربي فاسد مرتهن لإرادة الغرب ومخططاته، يؤازرهم في الوقت ذاته وعن غير قصد بعض أقلام لكتاب وأعلاميين محترمين من أبناء جلدتنا أبدوا خشيتهم من جدوى ذاك الربيع ومدى نقائه جراء ذلك التشويه الإعلامي المتعمد!!.
قبل أيام قلائل وصلني مقال أبهرني محتواه عبر بريدي الالكتروني للإعلامي المعروف السيد غسان بن جدو، بما حواه من تحليل مطول لما يجري في مشهد ربيع التغيير العربي، حيث أبدى فيه الكاتب وبخلاصة شديدة رفض اعتباره للربيع العربي بأنه ثورة، واصفا ما يجري من حراك وتغيير على أنه ليس إلا تمردا اجتماعياً يحمل صفات الانفعال الشعبي والغوغائي (على حد تعبيره!!)، هذا ولقد استند الكاتب في تبريره ذاك إلى ما يراه ويتلمسه من انتفاء وجود فلاسفة ومفكرين للثورة مقارنة بالثورتين الفرنسية والبلشفية تارة، وتارة أخرى إلى هواجس ما يراه ويتلمسه من نفاق ودجل دول الغرب عموما وأمريكا تحديداً في احتضان ثورات شعبية ضد ظلم وفساد أنظمة من جانب، فيما يصر ذاك الغرب من جانب آخر على إهمال مقاومة شعب فلسطين لظلم واستبداد وسرقة وهيمنة صهيونية، وإنني تالله لأشاطره نصف رأيه الخاص بما يتعلق بتناقض مواقف الدول الغربية ونفاقها وكيلها بمكيالين تجاه الصهاينة، وأخالفه الرأي بأن ربيع التغيير العربي ليس إلا تمرداً لانتفاء وجود فلاسفة ومفكرين لربيع التغيير العربي، ومع كامل الاحترام والتقدير للحرص الذي أبداه كاتبنا بن جدو على ربيع التغيير العربي وخشيته من أن تقطف أزاهيره أياد خبيثة فاسدة ماكرة، فإننا تالله وبالله:
أولاً... لسنا بحاجة للانتظار أكثر مما انتظرنا على فساد أنظمتنا العربية التي كانت سبباً رئيسيا في ترسيخ تفكك الأمة، وضياع جهد توحدها، وفي محنة شعب فلسطين وضياع قضيته طوال ستين عاماً ونيف، وسبباً رئيسياً في تفتيت الجهد الجماهيري العربي المتطلع لغد أفضل!!.
ثانياً... ولسنا بحاجة لفلاسفة يقودون ربيع تغييرنا العربي، ولا لفلسفة خاصة بربيع التغيير العربي، وذلك لسبب بسيط، ففلسفتنا في حتمية التغيير العربي موجودة قدم وعراقة أمتنا العربية من جانب، وأنها تـُسْتمَدُ من عظم التحديات والكوارث والنكبات التي جابهتها – ومازالت تجابهها - أمتنا من جانب آخر، فجـُلّ ما نحتاجه ببساطة شديدة هو توحيد الجهد وشحذ الطاقات والإرادة الجماهيرية الصادقة للتغيير والانعتاق وتحقيق الأهداف القومية غير المرتبطة بأجندات خارجية والتي تتمثل في:
1- الإطاحة بالأنظمة العربية الرجعية والفاسدة، وإقامة نظم وطنية بديلة تحترم حقوق الإنسان العربي في العيش الكريم وفي التعددية السياسية والتنوع الاجتماعي، وإقامة دولة المواطنة الحقـّة التي يكون فيها للمواطن العربي وجود إنساني سليم مشارك غير معطل وغير مسلوب الإرادة وغير مصادر في جهوده بل فاعل في عملية البناء ومسيرة التقدم!!.
2- تحرير شعبنا وأوطاننا من الهيمنة الاستعمارية، وبإرجاع الكرامة والسمو والرفعة لهذه الأمة التي سادت يوماً ثم أفل نجمها طويلاً!!.
3- إطلاق الطاقات العربية الخلاقة للبناء والنهضة بعد التحرير!!.
واستكمالاً لما سبق ذكره، ومن هذا المنطلق تحديداً، ولكي نحقق أهداف ربيع التغيير العربي ونجني مكتسباته الوطنية والقومية، فإنه صار لزاماً علينا أن نحصن ربيع تغييرنا العربي من محاولات هيمنة غربية وامتطاء لصهوة جواده، وأن ذلك لعمري إلا من خلال الاعتراف بحقيقتين ثابتتين، وأن لا نخلط أوراقهما في غفلة من زمن وتسارع أحداث، أولهما بأن ربيع تغييرنا العربي قد جاء كنتيجة طبيعية بعدما رزح شعبنا العربي تحت نير وهوان وقهر واستبداد واستعباد حكامه الطغاة والفاسدين العرب لعقود طويلة، وحجمت قواهم وقدراتهم وكممت أفواههم، وما أن انطلق المارد العربي من قمقمه الذي حبس فيه طويلاً معلناً عن نفاد صبره من فساد أنظمته العربية الأزلية تلك، حتى أطلت الحقيقة الثانية المتمثلة بالمصالح والمخططات الغربية برأسها، فتحرك الإعلام الغربي بمساندة أقلام عربية مشبوهة لاحتواء وتحجيم إرادة ربيع التغيير العربي وتشويه صورته من خلال بث السموم في الدسم لزرع حالة من اليأس والإحباط في النفوس العربية التواقة والعطشى لإحداث تغيير جذري في أنظمتها السياسية المتهرئة المرتهنة بسياسات الغرب وأجنداتها المعروفة، ومن ثم استثمار ذاك اليأس والإحباط بتسريع تنفيذ مخططات الصهيوني الفرنسي برنارد لويس الهادفة لتفتيت المفتت من أقطارنا العربية المجزأة أصلاً أيام سايكس بيكو، وبالتالي الاستسلام لإرادة الغرب!!.
لقد كتبت الكثير من المقالات في تمجيد هذا الربيع، وأطنبت كثيراً بحتمية ذاك الربيع ومصداقيته وسمو أهدافه القومية النبيلة، محذراً في الوقت ذاته من الوقوع في شراك مخططات الغرب الماكرة الهادفة لتحريف وجهة سير ذاك الربيع، وسرقته بما سيقدم من دعم عسكري ومالي وإعلامي، متمنياً أن يكون ذاك الربيع عربيا نقياً دون شائبة غربية، وبالتالي إسقاط الدعوات المشبوهة التي نادت بضرورة مساندة الغرب لحراك ربيع التغيير العربي والتي قادتها آنذاك ومازالت تقودها أنظمة عربية رجعية معروفة كانت قد لعبت في السابق دوراً خبيثاً في محاولات إجهاض تحقيق الحلم القومي الذي قاده وسار به زعيم الأمة العربية الخالد جمال عبدالناصر!!، ولقد تساءلت في مقالي الأول الذي كتبته عقب انطلاق شرارة الربيع العربي من تونس، عن الأسباب الحقيقية التي دفعت بالشاب التونسي محمد البوعزيزي إلى إحراق نفسه!؟، وعن مبررات إقدام شاب تونسي آخر لتسلق عمود كهرباء ليمسك بأسلاك الضغط العالي فيحترق ليلقى حتفه!؟، وما الذي دفع بمارد الغضب التونسي أن يخرج من قمقم صمته الطويل متفجراً غاضباً غير آبه برصاص قوات الأمن وهراواتهم، في انفجار الجوع والفاقة والعوز، ضد هيمنة نظام فاسد على مقدرات شعبنا العربي في تونس كان قد تسبب بفشل تخطيط وسوء تنمية واستثمار، ليشمل مدن: سيدي بوزيد، منزل بوزيان، أرديف، بن غردان، صفاقص، القيروان، سوسة، تونس العاصمة!؟، ثم تبعتها ذات التساؤلات وزيد عليها في مقالات تبعت ذاك المقال حين تناولت ثورة 25 يناير المصرية الخالدة ضد نظام الفاسد اللامبارك!!.
لقد كان أمراً بديهياً بأن للغرب مصالح كبرى في منطقتنا، وأن له خططاً يروم تنفيذها لتحقيق مصالحه تلك، لعل أخطرها على الإطلاق وأهمها إعادة تقسيم المقسم وتفتيت المجزأ، ولقد نوهت في مقالات سابقة لي بأن هناك إرادتين تتصارعان في حراك ربيع التغيير العربي من أجل إثبات الذات، أولهما إرادة خير هذه الأمة المبتلاة ممثلة بربيع التغيير العربي الذي جاء انعكاسا طبيعياً للظلم والقهر وتغييب الإرادة الوطنية لعقود خلت، وثانيهما إرادة الشر ممثلة بمصالح الغرب في منطقتنا العربية الغنية ومن يسير بركابه من أنظمة عربية رجعية معروفة للقاصي والداني، ولقد وجد الغرب في ربيع التغيير العربي فرصة كبرى لامتطاء صهوة جواده واستثمار ذاك الحراك الجماهيري على أقل تقدير من خلال تأييدها الكاذب لما يجري تحت عنوان الديمقراطية وحقوق الفرد وذلك من أجل امتصاص زخم التأييد العربي له و سرقة جهد شباب التغيير العربي وتحريف وجهته وتشويه صورته خدمة لإغراضها المبيتة والخبيثة لمنع انطلاق القدرات العربية الخلاقة من عقالها الذي حاولت أنظمتنا العربية الفاسدة أن تبقيه مكبلاً، ليسرق بعدها حلم أبناء العروبة في التغيير المنشود، ليحقق حلمه بتفتيت المفتت وتجزئة المجزأة كما رسمه برنارد لويس، وبذا فلا وجود لرابط يجمع بين تلكما الإرادتين البتة، فكلاهما يصارع الآخر، وكل يسعى لتحقيق غايته المنشودة حثيثاً، ولذا فإنه من الجنون بمكان لو أننا أجهضنا حلم التغيير العربي بشبهة وجود إرادة أخرى كإرادة برنارد لويس مثلاً!؟، كما وأنه يعد انتحاراً لو أننا أسأنا الظن بشباب ربيع التغيير العربي وأهدافهم التي انطلقوا من أجل تحقيقها!؟.
مسك الختام أقول لأبناء ربيع التغيير العربي...
خذوا حذركم مما يخططه الغرب، أسقطوه من صهوة جواد ربيع تغييركم العربي، واجعلوا ثورتكم عربية ناصعة لا شائبة غربية فيها، وارفضوا أي هيمنة أو تدخل غربي، ولتكن ثوراتكم وانتفاضاتكم ضد طغمة وفساد حكامنا العرب منطلقاً لمرحلة انعتاق الأمة جمعاء من نفوذ وهيمنة واشتراطات أمريكا، وتذكروا دوماً عبارة رائعة كان قد قالها يوما الشيخ محمد الغزالي: "الثورة يرسمها المثالون وينفذها الفدائيون ويرثها المرتزقة"، فتالله إن لم تحسنوا أداءكم وزدتم من فطنتكم ودرجات وعيكم، ليرثن الغرب مكتسبات ربيع تغييركم العربي، يساندهم في ذلك فلول الأنظمة العربية المتهاوية جنبا لجنب مع أنظمة عربية رجعية لعبت دوراً مخرباً هداماً في منع تحقيق حلم عربي جميل أيام زعيم القومية العربية خالد الذكر جمال عبدالناصر، ومازالت حتى يومنا هذا تعمل على وأد ذاك الحلم العربي الجميل، بل وازدادت شراسة وتصميماً وقبحاً!!.
سماك العبوشي
26 تموز / يوليو 2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت