بات الوضع الفلسطيني الداخلي في حالة من الكمون والسُبات العميق، وأمست معه الأمور المتعلقة بالمصالحة الوطنية الفلسطينية وكأنها أصبحت في خبر كان، فغاب الحديث عنها حتى من الناحية اللفظية الاعلامية، ولم تعد تحظى بقدر من الاهتمام المطلوب والمنشود، ولا أحد في النظام الرسمي العربي يتحدث عنها أو يشير اليها سوى بعض التصريحات الخجولة التي تصدر هنا وهناك.
ومن نافل القول، الاشارة الى أن هذا السُبات العميق في الوضع الداخلي الفلسطيني، لم يكن ليتأتى لولا مجموعة من التطورات المتلاحقة في البيئة الاقليمية العربية المحيطة، وهي تطورات قذفت بموضوع المصالحة الفلسطينية الى الخلف في ظل انشغال العالم العربي بأزمات طاحنة، وانشداد الناس اليها في معظم بلادنا العربية، فضلاً عن الانشداد الدولي اليها، حتى على مستوى مصر العربية التي دخلت مرحلة جديدة من حياتها السياسية مع فوز الدكتور محمد مرسي، والآمال الكبيرة الملقاة عليه من أجل مساعدة مختلف الأطراف الفلسطينية للوصول الى بر المصالحة الوطنية المنشودة.
أزمات داخلية وخارجية
وفي سياق تلك التطورات فإن السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله تعاني بدورها مجموعة من الأزمات الطاحنة، منها أزمات خارجية ومنها أزمات داخلية. ويتربع على رأس تلك الأزمات الخارجية وجود حالة من الاهمال الدولي المتعمد للوضع الفلسطيني، خصوصاً من قبل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي ترى بأن الأمور يجب أن تبقى مشدودة الآن تجاه ما يجري في عدد من الدول العربية ومنها مصر وسوريا نظراً للاعتبارات الجيو استراتيجية التي تتعلق بكل من مصر وسوريا ودورهما ازاء التحولات الاقليمية الآتية بشكل عام.
ان الاهمال الدولي المُتعمد للوضع الفلسطيني، وغياب الاهتمام الرسمي العربي بمجريات الوضع الفلسطيني على مستوياته الداخلية والخارجية، دفع بحكومة بنيامين نتانياهو للاسراع بمواصلة توجهاتها المعروفة تجاه مسائل الاستيطان والتهويد خصوصاً في منطقة القدس ومحيطها وحتى داخل أحيائها العربية الاسلامية والمسيحية، مستغلة غياب العين الدولية المراقبة، وسيادة الصمت الدولي المريب.
كما أن حيزاً جديداً، كبيراً، وهاماً، من الأزمات الداخلية التي تعانيها الآن السلطة الفلسطينية في رام الله، يتمثل في وقف تدفق أموال الدول المانحة، وهو أمر تتوالد عنه صعوبات تتعلق بتأمين رواتب متفرغي السلطة الفلسطينية وموظفيها وأجهزتها وعموم مؤسساتها في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وحتى في الشتات، وقد تم مؤخراً اقتطاع نسبة جيدة من رواتب الموظفين خلال الشهر الماضي تقارب (40%) من أجل تأمين وصول الحد الأدنى من الرواتب لمستحقيها.
وعليه فإن سلاح المقاطعة أو الحصار السياسي والضغط المالي، يمارسان الآن على مواقع القرار في رام الله في اطار عملية تمويت وارهاق واتعاب الفلسطينيين وانهاكهم، ودفعهم نحو الركوع أكثر فأكثر. فالسلطة الفلسطينية تقدم الرواتب لأكثر من مائة وسبعين ألف موظف وعسكري ومتفرغ بين الداخل والشتات، وبالتالي فإن الأحوال الاقتصادية ومعيشة نسبة كبيرة من أبناء الشعب الفلسطيني تتوقف على الرواتب المقدمة من قبل
الصندوق القومي الفلسطيني الذي يمثل في حقيقة الأمر وزارة المالية الفلسطينية للداخل والخارج.
لقد بادرت المملكة العربية السعودية لتقديم حزمة دعم مالي لميزانية السلطة في رام الله خلال الشهر الماضي عبر (شيك نقدي) بلغت قيمته نحو مائة مليون دولار أميركي، الا أن تلك الحزمة المالية لايمكن لها أن تشكل حزمة أمان جدية أو حزمة انقاذ للوضع المالي الفلسطيني في مواجهة مرحلة صعبة في الوضع الفلسطيني الذي لاتنقصه أزمات جديدة في ظل الانقسام السائد حالياً.
لقد كثرت الأحاديث والتحليلات المتعلقة بالأزمات المالية المتتالية في ميزانية السلطة الفلسطينية في رام الله، وهي أزمات يتوقع لها أن تتفاقم خلال الفترات القادمة. لكن الجوهري في الأمر أن السبب الحقيقي وراءها توالدها واستمرارها يكمن من خلال عدة أسباب أهمها وجود الاحتلال ذاته، وعملية الربط الجائرة التي تمت للاقتصاد الفلسطيني باقتصاد الاحتلال منذ توقيع اتفاق باريس الاقتصادي الظالم عام 1995، ودور الاحتلال المعطّل لعجلة تطور ونهوض الاقتصاد الوطني، وسياساته التي شلت وتشل حركة الاقتصاد الفلسطيني في مجالاته المختلفة، الصناعية، والزراعية بما فيها صيد الأسماك (في قطاع غزة)، والسياحة والبناء والتجارة الداخلية والخارجية (الاستيراد والتصدير) وبالتالي في الحد من الاستثمار الحقيقي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 . فضلاً عن استمرار سيطرة دولة الاحتلال الاسرائيلي على أموال الضرائب الفلسطينية وتوكيل الجهات الاسرائيلية بجني الأموال المتعلقة بالضرائب المجباة عن البضائع المتدفقة الى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 واقتطاع نسبة منها لصالح دولة اسرائيل كأجور وأتعاب للطرف الاسرائيلي، وهو ماترك تلك الأموال (التي تقدر بنحو سبعين مليون دولار شهرياً) بيد سلطات الاحتلال التي تمسك بها بقوة، وطالما امتنعت عن تسليمها للجانب الفلسطيني في مرات عديدة خصوصاً خلال العام الماضي.
وفي هذا الجانب تشير مصادر مالية مسؤولة في السلطة الفلسطينية في رام الله، اضافة لتقرير الموازنة العامة للسلطة لعام 2012، الى أن الاتفاق الضريبي مع سلطات الاحتلال يحقق ما نسبته (66%) من الايرادات العامة للسلطة باجمالي يبلغ نحو مليار ونصف المليار دولار أميركي. وبالتالي، فإن صافي المحاصصة الضريبية الجائرة والظالمة مع اسرائيل مضافاً اليها العوائد الضريبية الاضافية، تكفي وفي أصعب الأحوال وفي حال توقف الدعم الخارجي لدفع ثلثي رواتب موظفي السلطة وعموم أجهزتها في الداخل والخارج.
حلول واقتراحات
اضافة لما سبق، فإن هناك أسباباً اضافية وجوهرية، لها علاقة بأزمات السلطة المالية، وعلى رأسها الاستخدام السياسي الفظ من قبل معظم الدول والجهات الدولية المانحة للمساعدات المالية للضغط والتأثير على المعادلة الفلسطينية وعلى الموقف الوطني الفلسطيني بشكل عام، وحتى على خطوات المصالحة الفلسطينية كلما بدت بشائرها موجودة على الأرض، حيث تربط تلك الأطراف بين مواصلة الدعم والمواقف السياسية المعينة كما حدث في سبتمبر الماضي عندما أوقف الكونغرس الأميركي دعمه للسلطة الفلسطينية في رام الله احتجاجاً على خطوة الرئيس محمود عباس بالذهاب للأمم المتحدة لطلب العضوية الكاملة لفلسطين في المنظمة الدولية.
وعليه، ان كسر الموقف الضاغط للدول المانحة على المعادلة الفلسطينية ومنها دول الاتحاد الأوربي، أمر ممكن ومتيسر، لكنه يفترض قيام الجهات العربية الرسمية وعلى مستوى الجامعة العربية بالتحرك من أجل دفع الدول المانحة للالتزام والوفاء بتعهداتها المطلوبة منها دون أي ربط بالشأن السياسي الجاري على صعيد العملية السياسية بين الطرفين الفلسطيني الرسمي و الاسرائيلي والمتوقفة أصلاً منذ فترات طويلة.
إن الأزمات المالية التي تعانيها السلطة الوطنية الفلسطينية، وهي الجهة الرسمية الفلسطينية والمشرفة على الصندوق القومي الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، أزمة حقيقية وان بالغ البعض في اعتبارها أزمة مفتعلة بغرض استدرار عطف الموقف السياسي من قبل بعض الأطراف الدولية.
فالأزمة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية نابعة بالأساس من وجود الاحتلال ذاته كما أسلفنا أعلاه، ومن وجود ربط جائر للاقتصاد الفلسطيني باقتصاد الاحتلال، في سياق السعي الاسرائيلي لمنع قيام اقتصاد وطني فلسطيني حر وحقيقي يؤسس لدولة
فلسطينية بكل ما للكلمة من معنى، واستقلالية مالية فلسطينية بعيدة عن سطوة الاحتلال.
إن التحرر الاقتصادي الفلسطيني كما التحرر الوطني، والخروج من أعباء الاحتلال وضغوطه يفترض اعادة النظر باتفاق باريس الاقتصادي الجائر الموقع بين السلطة الفلسطينية والطرف الاسرائيلي عام 1995، وهو اتفاق بات يقيّد الاقتصاد الفلسطيني، عدا عن فتحه الأسواق الفلسطينية أمام المنتجات الاسرائيلية بموجب بنوده المنظمة للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الجانبين (حيث تقدر نسبة البضائع الاسرائيلية التي تدخلها سلطات الاحتلال للسوق الفلسطيني بنحو ثمانين في المائة مقابل ثمانية عشرة في المائة فقط هي حصة المنتج الفلسطيني داخل أسواقه).
كما وفي ضمان قيام تنمية اقتصادية حقيقية في الداخل الفلسطيني فوق أراضي العام 1967 بمعونة عربية ودولية صادقة بعيدة عن تأثيرات الاحتلال، وبعيدة عن ربط عجلة حياة الناس الاقتصادية بعجلة الاقتصاد الاسرائيلي، وزيادة الموارد من خلال تشجيع الاستثمار في مختلف القطاعات كالزراعة والصناعة والتعليم والصحة، ومكافحة التهرب الضريبي.
وهنا فإن تقديم حزمة أمان مالية عربية جدية وفاعلة ومضمونة للشعب الفلسطيني، أمر لابد منه لتثبيت صمود الفلسطينيين على الأرض، ولإخراس الأصوات التي تدعو للرضوخ للمنطق السياسي الأميركي تحت تأثير الضغط المالي والاقتصادي الأوربي والأميركي وحتى الاسرائيلي على الطرف الفلسطيني.
وعلى الضفة الفلسطينية، فإن انتفاخاً ملحوظاً يجب أن يتوقف على صعيد سلة المصروفات الادارية كما تحدثت معظم التقارير الصادرة عن الجهات الفلسطينية ذاتها في رام الله، والعمل على تقليل النفقات الادارية وشبه الادارية التي تصل الى نحو (54%) من الموازنة العامة للسلطة والباقي للرواتب والمخصصات، حيث تحظى الأجهزة الأمنية والأذرع العسكرية المختلفة للسلطة على نحو (30%) من سلة الرواتب، فيما يتم صرف المتبقي منها على عموم المؤسسات المدنية للسلطة وعلى مرافق الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية وغيرها.
بقلم علي بدوان
صحيفة الوطن
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت