ينتصف رمضان،ويذكرنا بيومين فاصلين..؟!

بقلم: الشيخ ياسين الأسطل


اليوم ينتصف رمضان ، وهذا مؤذنٌ للشهر وعبادة الصيام والقيام ، كما أنه مؤذنٌ للصائمين والقائمين ، يا عباد الله فماذا أنتم فاعلون ؟ ..من فرط أو قصر في أول الشهر فليُقْبِل وليستدرك قبل الفوات ، فلن ينفع التحسُّرُ والندمُ بعدها ، ومن أطاع واجتهد فليزدد في الطاعة والاجتهاد فقد قرب وقت الحصاد ، ومن لَغَا ولَهَا فواهاً له واها، ما ينفع اللَّغْوُ ولا اللَّهْوُ بل يَضُرّ ، فلنجتهد في العمل فإن الموسم رابح ، ولنصلح الخلل فإن الإصلاح ناجح ، ولنُرْغِمَ الحاسد فإن الحسد فاضح ، وميدان الطاعة في رمضان فسيح ، فلنجدد العزيمة ، ولنخلص النية ، ولنوجه السير ، ولنستقم على الطريقة ، ولنتمسك بالحقيقة ، فالشياطينُ من الإنس والجن بالمرصاد ، والله سبحانه المُعْتَصَمُ والمَنْجَى وإليه المُلْتَجَأ ، ومن بعده النبي صلى الله عليه وسلم هو السبيل ، فيا سعد من وُفِّق في معالي الاتباع ، ويا شقاوةَ من خُذِلَ في مهاوي الابتداع ، ومن لم يُفْلِحْ اليوم في رمضان فهو على تخوفٍ أنْ لَا يُفْلِحَ في سواه ، فلننظر إلى السابقين ، فهم السابقون ، ولنعمل فيمن تَبِع ، فهم اللاحقون ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم .

اليوم ينتصف رمضان ، وهذا يذكرنا بيومين فاصلين ، اليوم الأول بين التتار والمسلمين وهو يوم وقعة عين جالوت فقد كانت في صباح يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان ، فقد جاء في الموسوعة العربية العالمية : ( التقى الجيش الإسلامي مع الجيش التتاري في معركة فاصلة في صباح الجمعة الخامس عشر من رمضان عام 658هـ ، سبتمبر عام 1260م. وقُتل كتبغا وأسر ابنه. ومات كثير من جنود التتار. وكانت هزيمة ساحقة لم يصب التتار بمثلها في تاريخهم من قبل. وكان يومًا عظيمًا في تاريخ المسلمين والإسلام) .

وأما اليوم الثاني فقد كان بينما المسلمون ساجدون لربهم بمسجد مدينة الخليل بفلسطين في صلاة فجر يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان من عام أربعة عشر وأربعمائة وألف من الهجرة، الموافق عام أربعة وتسعين ميلادية فقام الصهاينة بإطلاق النار العشوائي على المصلين فقتل في المسجد أكثر من ثلاثين وجرح المئات أمام سمع وبصر العالم .

عباد الله ، يا أهل الصيام والقيام : يريد الله بنا اليسر ولا يريد بنا العسر فالأيام في الصيام معدودات ، فلتدرجوا للكمال ، يا أيتها المؤمنات ويا أيها المؤمنون الرجال ،{ لعلكم تتقون } ، إنه سبيل سلفكم الصالحين ولكن إيماناً واحتساباً ونية ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من صام يريد الله بكم اليسر أيها الصائمون ولا يريد بكم العسر فأيامكم في صيامكم معدودات ، فلتدرجوا للكمال ، يا أيتها المؤمنات ويا أيها المؤمنون الرجال ،{ لعلكم تتقون } ، إنه سبيل سلفكم الصالحين ولكن إيماناً واحتساباً ونية ، فقد روى الحديث البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد والموطأ واللفظ للبخاري قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ سَلَامٍ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وروى الأئمة المذكورون واللفظ للبخاري أيضاً قال : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .

عباد الله أيها المسلمون : وفي فضل الصوم في سبيل الله تعالى روى النسائي بسنده عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفا " ، قال الشيخ الألباني : صحيح . وفي رواية للنسائي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من صام يوما في سبيل الله عز و جل باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام " ، قال الشيخ الألباني : حسن . ولكن هذا الفضل إنما هو لمن صام رمضان بشرط الصيام على هدي النبي صلى الله عليه وسلم .

أما من استمرأ اللغو والرفث والفحش والتفاحش ،فلم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه ، فقد روى الإمام البخاري واللفظ له ،وأبوداود والترمذي وأحمد وسواهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) ، ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، و ليس له من قيامه إلا التعب والسهر، وفي الحديث عند أحمد في المسند عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر " ، قال الأرنؤوط : إسناده جيد .

فلله أنت أيها الصائم ، يا من حفظت بطنك ،كما حفظت فرجك ، حافظاً لسانك وأذنك وعينك ، وقلبك وشعورك ، أقبلت على الله فبذلت شيئاً من مالك صدقة أو صلة ، فأقبل الله عليك رحمةً وبرا ، ورفعةً وسترا ، رضيت عن الله فصارت المحنة - بصبرك عليها وتقواك فيها- منحة فرضي الله عنك ، ، فعجباً لأمر المؤمن - كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولا يكون ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر الله فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، فأنت بين الخيرين تتقلب ، نفسك بذكر الله مطمئنة ، ولسانك بالخير ناطق ، ويدك بالفضل ممتدة ، وعينك للحق دائبة ، وأذنك في طيب القول وكريم الكلام راغبة ، أنت في كنف الله لأنك ترى الله في كنفك ، فتعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، ولكأنك أنت الذي فيه الحديث عن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ " .

أيها المؤمنون الصائمون : أوشكت العشر الأواخر من رمضان أن تظلكم وفيها ليلة القدر، فلا يفوتنكم العمل الصالح فيها فلنشمر وقد ربح البيع بإخلاص العبادة عن ساق الجد والاجتهاد ، فيا من فاتك ما فاتك ، هلك الزيف وخسر التزييف ، قعد بأهله ما نهض التأفيف ، والوزنُ الراجحُ ما يغنيك التطفيف ، آن الشدُّ فَلْتَلْحقْ ، هذا الركبُ أَوْضَعَ بالأكابرِ ، عليك التَّعَلُّلُ ما ينفعُك التَّعْلِيْل ، ولتتحلل ما يجديك التحليل ، أخرك القالُ وأخذُك القيل ، يا سعدَ من عزم فقام ، وبادر ما نام ، وأنفق فعند الله المدخر ، في مقعد صدقٍ في جناتٍ ونَهَر ، فقد جاء الحديث عن أمنا عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد وهذا طريق البخاري قال : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :
" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ " .
قال سفيان الثوري : أحبُّ إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي أنه كان يطرق فاطمة وعلياً رضي الله عنهما ليلاً فيقول لهما: { ألا تقومان فُتصليان } رواه البخاري ومسلم .
ولا يغيبنَّ عنكم ، - عباد الله - أنه من أعمال العشر الأواخر من رمضان الاعتكاف في المساجد : ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، " كان رسول الله يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين ". وإنما كان يعتكف النبي في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر، قطعاً لأشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه.

فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقى له هم سوى الله وما يُرضيه عنه. وكما قويت المعرفة والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال. * قال الحسن البصري رحمه الله : ) إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته ، فسبق قوم ففازوا ،وتخلف آخرون فخابوا ! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ! ويخسر فيه المبطلون ! ) .

عباد الله ، أيها المسلمون : فلنرفع الأكف لله سبحانه بالتسليم ، وللنبي صلى الله عليه و سلم بالاتباع ، وللسلف بالاقتداء ، وللأمراء في غير المعصية بالدعاء ، والسمع والطاعة ، وللعلماء بالامتثال للسنة وحسن الصحبة ، وللوالدين بالبر وللأقربين بالصلة ، وللجيران بالتعاهد بالخير وسماحة العمل ، ألا يا عباد الله وصلوا وسلموا على النبي المصطفى ، والرسول المرتضى صفوة الخلائق أجمعين ، سيد الأولين والآخرين ، من بطاعته صلاحُ الدنيا وزكاةُ الدين محمدٌ بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما ، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنه وكرمه سبحانه إنه أكرم الأكرمين .
بقلم /الشــيخ ياســين الأســطل

الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
بالمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت