هدى الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان
الحلقة الخامسة : صدقة الفطر وأحكام العيد
غداً أو بعده يغادرنا ضيفنا العزيز ، غداً أو بعده يمضي شهر رمضان المبارك وتنقضي لياليه وأيامه ؛ فهنيئاً لمن صابر وصبر فيه ، وهنيئاً لمن ضيق مجاري الشيطان في دمه وعروقه بالجوع والعطش ، هنيئاً لمن ناجى ربه بالقرآن آناء ليله وأطراف نهاره ، وهنيئاً لمن ابتغى رضاه ورجاه ودعاه ، قال تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } البقرة 186 ، هنيئاً لمن صام نهاره إيماناً واحتساباً ، ولمن قام ليله إيماناً واحتساباً ، هنيئاً لمن فطر فيه صائماً وأطعم جائعاً أو سائلاً ، هنيئاً لمن أحسن إلى يتيم وأدخل الفرحة إلى قلب أسير أو أحيا كبد مسكين ، قال تعالى { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } الإنسان 8 .
هنيئاً لمن تقبله ربه في رمضان ، ورد أن { رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً إلى المنبر فقال حين ارتقى درجة { آمين } ، ثم ارتقى الأخرى فقال { آمين } ثم ارتقى الثالثة فقال { آمين } فلما نزل عن المنبر وفرغ قيل له يا رسول الله لقد سمعنا منك كلاماً اليوم ما كنا نسمعه قبل اليوم ، قال { وسمعتموه } قالوا نعم، قال { إن جبريل عليه السلام عرض لي حين ارتقيت درجة فقال بَعُدَ من أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما لم يدخلاه الجنة ، فقلت آمين ، وقال بَعُدَ من ذكرتَ عنده ولم يصل عليك ، فقلت آمين ، ثم قال بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين } رواه الطبراني
غداً أو بعده يفرح الصائمون بفطرهم وجائزة ربهم يوم عيدهم ، قال صلى الله عليه وسلم { للصائم فرحتان يفرحهما ، إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه فرح بصومه } رواه مسلم ، فرح المؤمن بزوال جوعه وعطشه وحرمانه ، وفرح بتمام فريضته وختام عبادته ، وفرح برضا ربه ومغفرته . والعيد في ديننا ابتهاج بالتقرب إلى الله وطاعته ، فهذه القيمة العليا التي يفرح بها المؤمن ويسعد بتحصيلها ، وهذا هو ميدان المؤمنين للتنافس في الخيرات والمسارعة فيها فاستحقوا الجائزة .
* وأول الواجبات على المسلم في يوم العيد أداء صدقة الفطر ، ويبدأ وقتها بأول يوم من رمضان ، لكنها تجب بغروب آخر يوم من أيامه ، وينتهي وقتها بدخول وقت صلاة العيد ، فمن أداها بعد صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات ، وتبقى ديناً في ذمته ، ويؤديها المسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من المسلمين ؛ كالزوجة والأبناء وغيرهم ، ودليل وجوبها أن { رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين } رواه البخاري . والحكمة منها أنها تكفر الذنوب التي ربما بدرت من الصائم ، فهي كسجدتي السهو للصلاة ؛ تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة ، فقد { فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين } رواه أبو داود ، لذا فقد فرضت على الجميع بمن فيهم الفقراء ، وفي صدقة الفطر فرحة حقيقية للصائم بفطره ، وللمساكين وأهليهم بإدخال السرور إلى قلوبهم وتأمين طعامهم يوم العيد وإكرامهم عن ذل المسألة فيه ؛ قال صلى الله عليه وسلم فيهم { أغنوهم عن المسألة هذا اليوم } رواه البيهقي .
* ويستحب للمسلم يوم العيد أن يتطيب ويتجمل ويلبس أحسن ما لديه من الثياب ، قال تعالى { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الأعراف31 ، واقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد روى ابن عباس أنه { كان يغتسل يوم الفطر والأضحى ويلبس بُرْدَيْ حَبْرَة } وهما من ثياب اليمن الفاخرة ، وروت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول { ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوب مهنته لجمعته أو لعيده ! } . ويستحب له أيضاً أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة ، فقد { كان صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات يأكلهن وتراً } رواه البخاري .
* ومن المستحبات سُنَّةُ التكبير يوم العيد ، وينتهي بانتهاء الخطبة ، فلنكبر الله تعالى يوم الفطر امتثالاً لأمره سبحانه ، فقد قال تعالى عقب آيات الصوم { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } البقرة 185 .
* ويسن للمسلم أداء صلاة العيد فرحاً بأنْ بلّغه رمضان فأتمه ، وجعله موسم طاعة فاغتَنمه ، فالسجود لله على النعمة هو من صور شكره ، وهي من أول العبادات يوم الفطر ، وهي سنة مؤكدة واظب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا الجميع إلى شهودها وحضورها ، فقد { كان يأمر النساء بالخروج في العيدين ليشهدن الصلاة فَيَكُنَّ خلف الناس يكبرْنَ مع الناس } رواه مسلم ، لأن الخروج إليها إظهار لشعيرة من شعائر الإسلام .
* وتستحب التهنئة بالعيد ، وتكون بكل ما يسرّ ويسعد الإنسان في دينه ودنياه من عبارات التمني والدعاء مما لا يخالف شرع الله تعالى ، ومن قُبلت طاعته في يوم كان ذلك اليوم عليه مباركاً ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا الْتَقَوْا يوم العيد يهنئون بعضهم فيقول المسلم لأخيه تقبل الله منا ومنك . فليهنىء بعضنا بعضاً بالعيد ولنتصافح فيما بيننا فبالمصافحة تَتَحاتُّ الخطايا والذنوب ، لذا يقول المسلمون لبعضهم : عيد مبارك عليك أو أحياكم الله لمثله .
* ويستحب إدخال الفرحة والسرور إلى قلوب الأطفال ، وتزيينهم بالملابس والذهب والفضة في هذا اليوم لإدخال الفرح إلى قلوبهم باللهو واللعب ، بل إن اللهو المباح واللعب البريء للكبار من المظاهر التي أباحها الله يوم العيد رياضة للبدن وترويحاً عن النفس ، فإن في هذا الدين فسحة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث بحنيفيّة سمحة ؛ دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على عائشة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها يوم فطر أو أضحى وعندها قَيْنَتان تغنيان ، فقال أبو بكر : مزمار الشيطان ؟ فقال صلى الله عليه وسلم { دعهما يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وإن عيدنا هذا اليوم } رواه البخاري ، ولكن لا يجوز اتخاذ العيد فرصة للغرق في الملذات الباطلة واللهو المحرم والمآثم .
* والعيد فرصة سانحة لصلة الرحم وذوي القربى ، فهي عنوان الأخوّة والتماسك في مجتمع الإيمان ، والصلة تقتضي الإحسان إليهم والعفو عن أساءتهم . وتتحقق بالزيارة والمعاونة وقضاء الحوائج بل حتى بالسلام ، وتكون كذلك ببذل المال لهم إن كان مقتدراً فهو تكافل وصلة وصدقة ، قال صلى الله عليه وسلم { الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة } رواه الترمذي ، وليس المراد بالصلة أن تصلهم إن وصلوك ؛ بل أن تصلهم وإن قطعوك ، قال صلى الله عليه وسلم { ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها } رواه البخاري ، وصلة الرحم لا يقصد بها الإحسان إلى الأقارب من النساء فقط ؛ بل هي شاملة للرجال والنساء لكن حق النساء فيها آكد .
* ومن السنن بعد رمضان وبعد الفطر صيام ستة أيام من شهر شوال ، ولا يشترط فيها التتابع بل يجوز تفريقها على مدار الشهر ، فلنحرص على صيامها فهي فرصة لا تعوض وموسم قد لا يتكرر ، قال صلى الله عليه وسلم { من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر } رواه النسائي .
مضت أيام العيد ، أيام السرور والبهجة والفرح والمرح واللعب ، أيام الموائد والأكل والشرب فهل سنعود إلى حياتنا كما كانت قبل رمضان ، هل سنواظب على عبادتنا الرمضانية أو على بعضٍ منها ! أم سنحيل أيامنا صحراء مجدبة وأرضاً قاحلة من العبادة والصلة الوثيقة بالله تعالى ، أم سنجعل ليالينا وقلوبنا وأرواحنا مظلمة تفتقر إلى نور الطاعة والعبادة !
إن المؤمن الحق لا يكتفي أن يكون من عُبَّاد رمضان ، ولا ممن ينشط فيه بالعبادة وطلب الأجر والزيادة ، حتى إذا انقضى توقفت أعماله ، فالتوقف عن الصالحات بعد رمضان نقض للعهد مع الله وعمل مبتور لا أصل له ، ومن عرف الله خافه في كل وقت وحين ؛ وإلا كان رمضان سجناً ما يلبث المرء أن يخرج منه فرحاً إلى المعاصي .
فالصحيح أنه سبحانه أمرنا بالصلاح والطاعة ، ووجهنا ألا ننقطع عن العبادة ما حيينا قال تعالى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } الحجر 99 ، فإذا عمل المؤمن حسنة عليه أن يتبعها بالحسنات ، وحري بمن فعل الحسنات في هذا الشهر الكريم وتقرب إلى الله بالطاعات أن يواصل الخير وألاَّ ينقطع عنه ، وأن يتمسك بما يحبه الله باقي السنة ، فإذا كانت الحسنة بعد السيئة تمحوها ، فكيف بالحسنة بعد الحسنة ؟ إنها تضاعف الأجر والثواب ، قال تعالى { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } هود 114 ، وقال صلى الله عليه وسلم { وأتبع السيئة الحسنة تمحها } رواه الترمذي ، فمن علامات قبول الطاعات والعبادات في رمضان أن توصل بعبادة وطاعة أخرى ، وعلامة قبول الحسنة مجيء الحسنة بعدها .
فإياكم وتبييت النية على ترك الطاعة والانفلات من الأخلاق والانغماس في المحرم من الشهوات بعد رمضان ، وحذار من نقض التوبة بعد عقدها مع الله ، فمن جاهد نفسه في رمضان وذاق طعم الإيمان وحلاوة القرآن ؛ يأبى أن يكون ممن قال الله فيهم { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } النحل 92 ، فهذه من المظاهر السلبية الباعثة على الأسى والحزن ؛ أن نملأ رمضان بالنوافل والمندوبات ، ونقلع فيما يليه من زمان عن الفرائض والواجبات التي هي جوهر الطاعة والعبادة المقربة إلى من فرض العبادة ، قال صلى الله عليه وسلم { وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضتُ عليه } رواه البخاري ، فالمطلوب من المؤمن أن يقبل على الطاعات ، وأن يؤدي الفرائض والواجبات والمندوبات في زمانها ، فإذا كان العمر ساعة وجب إفناؤها بالطاعة ، فكيف به وهو ساعات وساعات وأن الله سائله عنها ! قال صلى الله عليه وسلم { لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ... } رواه الترمذي .
تقبل الله منكم ومنا الطاعات ؛ وأعاد الله رمضان والعيد عليكم وعلينا وعلى الأمة جمعاء بالعزة والنصر والتمكين وقد تحرر مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاحتلال الغاشم ، وارتفعت على مآذنه راية التوحيد .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت