لخصت الأزمة الوطنية العامة في سورية في جوانب كبيرة منها دراما المخيم الفلسطيني في سورية، فقد باتت المخيمات والتجمعات الفلسطينية على أرض سورية بمثابة أنبوب إختبار جديد، يغلي ويفور سياسياً وعلى مستوياته المختلفة، متفاعلاً مع الحدث السوري بضوابط وطنية يسودها المناخ الوطني العام، الذي يقول بأن الفلسطينيين يقفون من الأزمة موقفاً متوازناً وإيجابياً ونبيلاً وعلى حد السكين، مسترجعين الدروس الثمينة من السيرة الفلسطينية منذ ماقبل النكبة وحتى اللحظات الراهنة، وهي دروس مختزنة في الذاكرة الجمعية لأبناء مخيم اليرموك، منذ الأسنان اللبنية، حتى صارت في تكوينها متكئة على صورة الحدث اليومي، وعلى سيرة مروية حملها معهم من دفعت بهم الأقدار خارج الوطن الفلسطيني في زمن الهجرات القصيرة والطويلة، وعلى سيرة واقعية حاملة للحلم الوطني المشروع في زمن الإنكسارات العربية المثخنة بالهزائم والتراجعات، وفظاظة المنطق التبريري.
ذاكرة فلسطينيي سورية
الضجيج السياسي والفكري، حالة طبيعية في التجمعات الفلسطينية في سورية، لكن الضجيج هذه المرة بات بشكل أخر، وبطعم من نوع جديد، فالأزمة السورية طاحنة، والموقف من الوضع الداخلي السوري يقتضي درجة عالية من الحكمة والتبصر وعمق الرؤية، ولايقبل موقفاً إرتجالياً غير مدروس، أو موقفاً على عواهنة، يدفع الناس نحو التهلكة.
أكبر التجمعات الفلسطينية في سورية ونعني به مخيم اليرموك، يعيش حالة من الحيوية العالية المرفقة بالصخب، السياسي، والفكري، وهي حالة ميّزت على الدوام هذا التجمع الفلسطيني خلال المفاصل والأزمات الرئيسية من عمر العمل الوطني الفلسطيني، وعموم الأزمات في المنطقة العربية.
مخيم اليرموك، الملاصق لمدينة دمشق من جهة الجنوب والتابع إدارياً لها، يَضُم بين ثناياه نحو ربع مليون مواطن فلسطيني معظمهم من لاجئي العام 1948، من أبناء مدن وأقضية حيفا وعكا ويافا وصفد واللد والرملة وطبريا والناصرة... من بين نحو سبعمائة ألف فلسطيني يقيمون في سورية، منهم نحو نصف مليون من لاجئي العام 1948 والذين يُعّرفون بعبارة (فلسطيني سوري) وهم كالسوريين تماماً في الحقوق والواجبات وفق التشريعات السورية الصادرة منذ العام 1949 خصوصاً منها القانون رقم (256) الصادر عام 1956 والذي يقول بالمساواة التامة بينهم وبين إخوانهم السوريين بإستثناء حق الترشح والمشاركة في الإنتخابات البرلمانية والرئاسية وإنتخابات الإدارة المحلية.
ذاكرة فلسطينيي مخيم اليرموك وفلسطينيي سورية عموماً، ذاكرة مرهفة، لاقطة، بحساسية عالية تتعدى "عالم المايكروسكوبيات"، فقد راكمت مخزونها رويداً رويداً، فأمست منذ زمن بعيد ذاكرة لا تصدأ بفعل الحت الزمني، فقد نشأت وتغذت مع لبن التخليق، فلاحقت الفلسطيني من الوطن إلى الشتات ومن الوطن إلى الوطن، ومن رحم الولادة إلى الكون
المفتوح، فكانت لحظة البداية، في متوالية الأسئلة المتزاحمة، التي تفتحت معها بواكير الوعي الفلسطيني لأجيال الشتات، والمشتتين على أرض الوطن الفلسطيني.
ذاكرة فلسطينيي سورية، واسعة في حجم مخزونها، لاتنسى، ذاكرة غير مثقوبه، لاتغفل دروس الماضي، منذ أن وطأت أقدامهم أرض وطنهم الثاني سورية الحالية، التي كانت على مر التاريخ وحدة واحدة ضمن بلاد الشام. ففي تجربتهم الدمشقية إشتبكوا سياسياً مع أنظمة تتالت، ونالت منهم حكومة تموز/يوليو 1963 بجر أعداد منهم إلى السجون والمعتقلات إلى جانب عشرات السوريين على خلفية المحاولة الإنقلابية الشهيرة التي قادها العقيد السوري جاسم علوان في التاريخ ذاته، فجرى إعدام ستة عشر شاباً من أبناء فلسطين جلهم من مخيم اليرموك، ومن المنضوين في الكتيبة الفدائية (68) التابعة للجيش العربي السوري في سجن المزة العسكري، قيل بأنهم كانوا من المتورطين في إنقلاب تموز 1963 الفاشل. ومع ذلك، ومع كل الإشتباكات السياسية التي وقعت ومع الخلافات التي إنفجرت بين قيادة المنظمة وسورية عام 1976، وعام 1983، فإن فلسطينيو سورية كانوا على الدوام كالمواطنين تماماً، ولم تجر في أي وقت من الأوقات أي عمليات مقصودة، إنتقامية، إستهدفتهم كفلسطينيين في سورية.
قَهر العطالة الذاتية
في سياق تلك الذاكرة الحية، وفي هذا المعمعان من الوعاء التفاعلي المتواصل تحت حرارة بارومتر الحدث اليومي، قَهر فلسطينيو سورية وهزموا "العطالة الذاتية" التي تسببها كمومية وكتلة الأشياء، وإكتسبوا "توازناً قلقاً، لكنه مرموقاً" متغلباً على محصلة "القوى الصاعدة والهابطة، والآتية من كل الاتجاهات"، ليبنوا موقفاً متوازناً وعاقلاً من الأزمة السورية منحازين بإنشداد إلى الشعب السوري بكل أطيافه ومكوناته، والى سورية الواحدة الموحدة، دون أن يتخلوا عن خصوصية اللقب : لاجئ فلسطيني في سورية.
لقد إرتسمت علامات المخيم والتجمع الفلسطيني وفرادته في سورية بالرغم من التداخل والتلاصق الهائل مع النسيج العام للشعب السوري الشقيق، فبنى اللاجئون الفلسطينيون الذين "يتمتهم النكبة" فلسفتهم الخاصة في حدود المخيم الفسيحة في عمقها، ومن رقعته الجغرافيا الضيقة إلى الحدود اللامتناهية من التفاؤل والحلم المشروع، من مأوى الشتات وحتى ساحات مدارس وكالة الأونروا المتراصة في أحياء مخيم اليرموك كما هي الحال في عموم المخيمات الفلسطينية في الداخل والشتات، فامتلأ طريقهم المتعدد والمتجدد، المتنور والمتطور، بنتاج تلاقح وإقتران الوعي بالفتوة النقية، والرأي بالشجاعة، وفي السباق على طريق غد قادم يتجسد فيه الحلم الفلسطيني المشروع. إنها فلسفة معاشة من الوعي أنتجتها وقائع التجربة الفلسطينية المرة والمريرة، وبنت حولها وعليها طوقاً إنسانياً شديد الإنحدار في إنسيابه نحو العطاء الإنساني.
إن تلك الحالة الفلسطينية العامة في مخيم اليرموك وغيره من التجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية، إستدرجت عمقاً في الحيوية والنقاش، تَشهد عليها كل يوم الإجتماعات المتواترة التي إنطلقت منذ بدايات الأزمة السورية، لوجهاء وشخصيات ومثقفي مخيم اليرموك والعاملين بالشأن العام، ومن بينهم عدد كبير من المستقلين ومن أعضاء وكوادر الفصائل الفلسطينية الخمس عشرة التي تعمل في التجمعات الفلسطينية في سورية وهي : حركة فتح، حركة حماس، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية/القيادة العامة، منظمة الصاعقة، حركة الجهاد الإسلامي، جناحي جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، جناحي جبهة التحرير الفلسطينية، حزب الشعب الفلسطيني، الحزب الشيوعي الفلسطيني، حركة فتح/الإنتفاضة، حزب الإتحاد الديمقراطي الفلسطيني (حزب فدا)، الجبهة الديمقراطية.
فلولكور الحوار والتباينات
في تلك اللقاءات والإجتماعات، كانت التباينات، والإختلافات، وتعدد الرؤى وتضاربها في أحايين كثيرة واضحة، وهي كالعادة عند كل مفصل سياسي، فباتت على الدوام جزءاً أصيلاً من فولكلور المخيم الفلسطيني في سورية. فهناك الآن من يقف مع سورية "النظام والشعب" بقوة وإنحياز كبير. وهناك من يقف في الوسط. وهناك من يرى بأن الفلسطينيين منحازين للشعب دون النظام ولكن دون تورط أو غرق في أزمة لها أبعاد أكبر من الشعب الفلسطيني ومن قدرته على التحمل والإحتمال. وهناك من إالتحق وعلى قلتهم العددية بما بات يعرف بالجيش الحر في حي التضامن وغيره من الأحياء السورية. لكن الجامع الأساسي كان على الدوام هو السائد في تقرير الموقف العام وفي إحلال مايمكن تسميته بالمزاج
الشعبي لدى عامة الناس، موقف لايسمح للفروق والتباينات بأن تشتته، حيث المناخ العام المُقر راهناً وبإجماع وطني فلسطيني يقول بأن دور الفلسطينيين في سورية هو دور إطفائي وإيجابي على صعيد البلد ككل، ولايمكن أن يتعداه لدور إنتحاري ليدخل إلى قلب كرة اللهب المشتعلة بالرغم من سقوط نحو أربعمائة شهيد من فلسطينيي سورية خلال الأزمة السورية وحتى بداية شهر آب/أغسطس الجاري 2012، كان منهم شهداء مجزرة قذائف الهاون 120 ملم، التي سقطت في شارع الجاعونة الواقع جنوب شرقي مخيم اليرموك.
لقد عاش الفلسطينيون ومازالوا، وخصوصاً اللاجئين منهم من حاملي مايعرف بـ "وثيقة السفر" : الوثيقة السورية واللبنانية والمصرية والعراقية، في دياسبورا المنافي الشتات، حياة مليئة بالظُلم المُدقع والإجحاف المُؤلم في دنيا العرب والعروبة، كما هو حال فلسطينيي لبنان على سبيل المثال. وتجرعوا خلالها مرارة مابعدها مرارة، وتمرغوا في وحول أزمات فُرضت عليهم، ومعادلات تاجرت بهم، وبقضيتهم، وتعطلت بهم السبل، فَتَعشّقَ الظُلم داخل مكنوناتهم، وجعلهم يَتضامنون تلقائياً مع من وقع عليه ظُلم الأخرين، ليصبحوا بذلك مقاتلين أشداء من أجل نُصرة المَظلوم، وحرية الإنسان وكرامته، فبنوا فلسفة تقول بضرورة الحفاظ على الأوطان مهما كلف الثمن.
إن الإحساس بالظُلم والإجحاف أمر مغروس في نفوس لاجئي الشعب الفلسطيني وحاملي مايسمى بالوثيقة، الذيمن كانوا ومازالوا في أوقات كثيرة ضحايا الترحيل والنوم في قاعات الشحن والترانزيت في المطارات العربية. لكن هذا الإحساس لم ولن يتماهى لدرجة بروز روح الإنتقام، بل ترافق معه صَبرٌ كبير، وحُلمٍ عالٍ في سياق العمل من أجل وطنهم فلسطين، والحفاظ على بوصلتهم نحوها مهما تعاظمت التحديات وتعددت الإلتواءات والمصاعب وتعقدت السُبل.
وإنطلاقاً من تلك العجينة والخلطة السياسية والفكرية التي باتت مغروسة في الوعي الجمعي الفلسطيني، إنطلق فلسطينيو سورية، ومنهم فلسطينيو مخيم اليرموك يمدون يد العون لكل أبناء الشعب السوري بموزاييكه وألوانه المختلفة السياسية والفكرية والطائفية وغيرها، وفاتحين بيوتهم لأبناء سورية وللأحياء المحيطة بمخيمهم، والتي تضررت في حي التضامن، والميدان، والعسالي، والقدم، والحجر الأسود، والقاعة وغيرها، رافضين منطق التقاتل الطائفي المقيت إن وجد ولو محدوداً، داعين الشعب السوري للمحافظة على وطن أسمه سورية بكل مكوناته وممتلكاته وثرواته وإنسانه.
بقلم علي بدوان
صحيفة الوطن القطرية
الأربعاء 15/8/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت