اليوم نختتم صيام رمضان ، شهر الإسلام شهر التوحيد والتمجيد والتحميد لله ، شهر الجود ومدارسة القرآن ، شهر الرحمة والصلة والتوادد إلى عباد الله تعالى ، إنه شهر انكسار النفس لله ، شهر الإخلاص والتبتل والتعبد والتذلل ، شهر الصبر والنصر ، شهر المغفرة والرفعة ، شهر التوبة والكف عن المحرمات وإننا نتوجه إلى الله ربنا فنرفع الأكف بالتضرع والدعاء ، فنسأله سبحانه أن يعتق رقابنا من النار اللهم رضينا بك ربا، وبالإسلام دينا ، وبمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبياً ورسولا ، اللهم فاغفر ذنوبنا واكتبنا من عتقاء رمضان ، وتقبل منا الصيام والقيام ، فمن فضلك اللهم أعنتنا على العبادة ، أنت سبحانك أعنتنا على الصيام ، وأعنتنا على القيام ، فتقبل ربنا منا ما أحسنا ، وتجاوز عما أسأنا ، فالكمالُ لك وحدك ، والجلالُ والجمالُ ، وأنت الغنيُّ ونحن الفقراءُ إليك ربنا ، يا حيُّ يا قَيُّوم .
وداعاً رمضان أيها الحبيب المرتحل ، ونحن إذ نودعك ، فلا نودع العبادة ، ولا نودع الطاعة ، فإنما نحن نتعبد لله وحده ماحيينا ، ولكنك يا رمضان مضمار للسبق إلى الخيرات ، ومتجر رابح للأعمال الصالحات ، والمحروم من فُتَّه أو فاتك ، والمرحوم من صادفك أو صادفته ، فطوبى لكم ، ثم طوبى لكم ، أيها الصائمون القائمون إيماناً واحتسابا فأبشروا فالله واسع الفضل المبين .
عباد الله ، أيها الصائمون :يقول الله تعالى في سورة الأعلى :{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى(14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)}، ذكر القرطبي عن عطاء وأبي عالية : نزلت في صدقة الفطر. وعن ابن سيرين {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} . قال : خرج فصلى بعد ما أدى. وقال عكرمة : كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي. فقال سفيان : قال اللّه تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} . وروي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر : أن ذلك في صدقة الفطر ، وصلاة العيد. وكذلك قال أبو العالية ، وقال : إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ، ومن سقاية الماء. وروى كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} قال : "أخرج زكاة الفطر" ، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} قال : "صلاة العيد" . وقال ابن عباس والضحاك : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} في طريق المصلى {فَصَلَّى} صلاة العيد ) .اهـ .
والعبرة هنا ودوماً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فالفلاح لمن تزكى وتطهر من الشرك والمعاصي بالتوحيد لله والطاعة وأجل الطاعات بعد التوحيد الصلاة ، فالمدلول يعم لعموم اللفظ .
ولتعلموا عباد الله أن السنة في زكاة الفطر من رمضان بلا خلاف بين أهل العلم أن تخرج صاعاً من الطعام والصاع أربعة أمداد (حفنات ) بمد الرجل المتوسط يحفن بيديه جميعاً غير باسطهما ولا قابضهما ، وأما إخراج القيمة وكذا النقود فقد أجازه بعض العلماء ، وموافقة السنة أحب إلينا وهي ما أجمع عليه أهل العلم وأولى وأحرى .
وفي صحيح البخاري ومسلم وباقي الستة ومسند أحمد وموطأ الإمام مالك وسنن الدارمي واللفظ لمسلم قال حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ حَدَّثَنَا دَاوُدُ يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ إِنِّى أُرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَمَّا أَنَا فَلاَ أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ) .
وتؤدى قبل صلاة العيد في صبيحة يومه ويجوز تقديمها بيومين أو أكثر على أقوال عند أهل العلم ، وتؤدى عمن يمون الإنسان من أهل أو خدم أو عيال ، وتصرف إلى المساكين والفقراء لإغنائهم عن السؤال في يوم العيد .
وفي صحيح البخاري قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :
( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ ) اهـ .
وصدقة الفطر واجبة للصيام ليطهر من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، ولا يجوز تأخيرها ، وقد روى أبو داود وابن ماجة واللفظ لأبي داود قال :
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمْرَقَنْدِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا مَرْوَانُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْخَوْلَانِيُّ وَكَانَ شَيْخَ صِدْقٍ وَكَانَ ابْنُ وَهْبٍ يَرْوِي عَنْهُ حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ مَحْمُودٌ الصَّدَفِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :
( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ ) اهـ .
إخوة الإسلام ، يا عباد الله : نسأله سبحانه بما عملنا من عملٍ صالحٍ أن يعتق رقابنا من النار اللهم رضينا بك ربا، وبالإسلام دينا ، وبمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبياً ورسولا ، اللهم فاغفر ذنوبنا واكتبنا من عتقاء رمضان ، وتقبل منا الصيام والقيام .
عباد الله ، أيها المسلمون : الله أكبر ما أعظم هذا الفضل ، وما أكرم هذا العطاء ، الله أكبر ما أرحم وما أقرب من الله من أحد ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ :
" الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ".
وقد روى البيهقي في السنن الكبرى وأبو يعلى الموصلي واللفظ له قال: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبد الله بن قريط ، عن عطاء بن يسار عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ، فَعَرَفَ حُدُودَهُ ، وَحَفِظَ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْهُ كَفَّرَ مَا قَبْلَهُ. "
نحن ندعو بدعاء السلف إذ نودع رمضان الحبيب المرتحل ،وقد كانوا ( يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ! ثم يدعون ستة أشهر أن يتقبل منهم ).
وقال يحيى بن أبي كثير (رحمه الله) : (كان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان ، وسلم لي رمضان ، وتسلمه مني متقبلاً ) .
ألا يا عباد الله ، يا أهل فلسطين : على الله وحده فتوكلوا ، وبه سبحانه فثقوا ، وإياه فادعوا ، واعلموا أن النصر مع الصبر ، فيا إخوة الإسلام : الصبر الصبر ، والثبات الثبات ،والطاعة الطاعة ، لله ولرسوله العروة الوثقى في هذه الأيام العصيبة ،التي نمر بها في فلسطين وفي العالم الإسلامي كله ، فلنتماسك ولنمسك بالسنة والكتاب وطاعة أولياء الأمر في طاعة الله ورسوله ،فما كان فيه أولياء الأمر طائعين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛نحثهم عليه ونؤيدهم فيه ، ونقف معهم فيه ، وما كانوا فيه مخالفين ندعوهم ، ونذكرهم ، ونبين لهم ، ونرجوهم ، وندعو الله لهم أن يقيموا فينا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا نطلق فيهم لساناً ولا نغدر بهم من خلفهم ، فنحن يا عباد الله : في وقتٍ حرج ، وقتٍ عصيب ، فلنمسك ولنتماسك ولا نفعل ما تقر به أعين أعدائنا ،الذين يريدون تمزيقنا وإخراجنا من بلادنا ، وإخراجنا من بيوتنا وإلقاءنا في غياهب الصحراء يريدون ذلك ولكن الله سبحانه وتعالى رحيم رحيمٌ ورحمته قريب ٌ من المحسنين ،فعلينا أن نحسن فيما بين أنفسنا ، أن نحسن مع الله في عبادته ، وأن نحسن فيما بين أنفسنا حتى يرحمنا الله ،ويشملنا برحمته وحفظه إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
عباد الله : ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمدٍ عليه الصلاة والسلام ، فإن الله قال في كتابه : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } سورة الأحزاب (56) .اللهم صل وسلم ، وبارك وأنعم ،على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم برحمتك ومنك وكرمك، يا أرحم الراحمين .
بقلم/الشــيخ ياســين الأســطل
الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
بالمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت