أس مصائبنا وما حل بنا من نكبات، وهواننا بين أمم الأرض إنما هو تحصيل حاصل طبيعي ومنطقي لحالة الضعف التي تلبستنا وقلة حيلتنا وانقسام صفنا وتشتت كلمتنا، فتفرعنت "إسرائيل" وراحت تلوي أذرعنا كيفما تشاء دون رد منا، وباتت قاب قوسين أو أدنى من استكمال إقامة "الدولة العبرية" بعدما فرضت كلمتها وهيمنتها السياسية والاقتصادية على مجمل منطقتنا العربية المغيبة شعوبها، هذا كما وصرنا كالقصعة التي تداعى الأكـَلـَة إليها بين الأمم وأمام الغرب تحديداً، فكان لحالة هواننا تلك أن نال نبينا المعظم الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم" ما ناله من إساءة وأذى من بعض صحف أوربا الموتورة المدفوعة الأجر!!.
في خضم متابعتي لما يجري لمسلمي الروهينغيا المستضعفين في بورما، وما تلمسته من ضعف وهزالة ردة الفعل العربية والإسلامية الرسمية إزاء ما يحدث هناك وما جرى لفلسطين من قبل، فإذا بحادثة الإساءة المتعمدة لرسولنا الكريم بما نشر في بعض الصحف الأوربية من رسوم كاريكاتيرية تقفز إلى أذهاني وتسيطر على جل تفكيري، لأربط بين أحداث جسام جرت هنا اليوم أو هناك قبل عقود خلت فنالت من كرامتنا وعزة أنفسنا، فأخرج بنتيجة واحدة مؤلمة مفادها بأن ما جرى ويجري في فلسطين السليبة من سفك للدماء وتشريد واستيطان وقضم للأراضي وامتهان للمقدسات هناك، وما جرى ويجري لمسلمي الروهينغيا في بورما من اضطهاد وتنكيل وتعسف وقتل، وغيرها من بقاع أرض العرب والمسلمين، وما نشر من رسوم مسيئة بحق نبينا محمد "صلى الله عليه وسلم" إنما أعزوه لاستخفاف الغرب المتعمد بنا نحن العرب والمسلمين وعدم اكتراثهم لجدية وفاعلية وجدوى ردة أفعالنا إزاء ما يجري، ليقينهم أن ردات فعلنا لن تتعدى في أحسن الأحوال على الاستنكار والشجب والخطب الرنانة!!.
لنقف هنا هنيهة ونعترف جميعاً بأن هناك حربا غربية صهيونية شعواء مستعرة منظمة ضد الإسلام الحنيف، خشية منهم ورهبة من تداعيات انتشار الإسلام في الغرب وعظم أمره وشأنه، برغم حالة الضعف والهوان التي نعيشها نحن العرب والمسلمين، ليقينهم بأن قوة الإسلام كامنة في تعاليمه ومبادئه السمحاء، وأن الإسلام غدا ينتشر كالنار في الهشيم داخل مجتمعاتهم الغربية مما ينذرهم بالخطر الجسيم على مجتمعاتهم، فراح الإعلام الغربي يعمل على نشر مفهوم الإسلاموفوبيا (Islamophobia) - وهو مصطلح ظهر أول مرة كمصطلح عام 1976، وانتشر على نطاق واسع عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001-، بقصد تشويه صورة المسلمين وشيطنتهم، والادعاء الكاذب بأن الدين الإسلامي الحنيف يتسم بالعنف والعدوانية وأنه يدعم الإرهاب ولا يؤمن بحرية الفكر والاعتقاد والرأي، لخلق حالة من نفرة الغربي له، ومن هذا المنطلق تحديداً، فإنني لا أشك لحظة واحدة بأن حملات الإساءة المتكررة للرسول محمد "صلى الله عليه وسلم" والمتمثلة بالرسوم الكاريكاتيرية إنما هي حملة منظمة ممنهجة القصد منها ضرب عصفورين بحجر واحد:
1- تشويه صورة الإسلام في الغرب من خلال التركيز على مفهوم الاسلاموفوبيا.
2- استغلال الإعلام الغربي لردات الفعل المتشنجة غير المسئولة والتي صدرت من بعض المسلمين في ترسيخ تلك الصورة الشوهاء عن الإسلام والنيل من قرآننا ونبينا، وترسيخ فكرة أن المسلمين لا يحترمون وجهات النظر ويضيقون ذرعا بحرية إبدائها!!.
وفي ظل اعترافنا بشراسة الحرب الغربية المعلنة علينا نحن المسلمين، فإنه صار أجدر بنا أن نحذر ونحتاط في اختيار طريقة الرد على هؤلاء وتفنيد ما يدّعونه ويروجون له، كما وصار علينا لزاما أن نتدارس الأمر من كافة جوانبه لنهتدي إلى أيسر الطرق وأنجعها في مواجهتنا لمخططاتهم الشيطانية تلك، وتحديد نقاط ضعفنا في أدائنا في معالجة موضوع الرسوم المسيئة للرسول الكريم محمد "صلى الله عليه وسلم"، وإزاء ذلك كله فإنني لا أرى بدً من أن أتساءل:
1. هل أدركت قيادات بلداننا العربية والإسلامية ومؤسساتنا الدينية والإعلامية أبعاد تلك الحملة الممنهجة والمنظمة!؟، أم أنها اكتفت بالاستنكار والتهديد والشجب والوعيد ومقاطعة بضائع تلك الدول الأوربية وحسب!؟.
2. هل تفتقت أذهان تلك القيادات لطريقة ناجعة ترد بها على تلك الإساءات المتكررة لترد الصاع صاعين بطريقة حضارية فاعلة وتجهض تلك الحملات وتردها إلى نحر من خطط لها ونفذها!؟، أم أنها اكتفت بقرارات مقاطعة لبضائع تلك الدول كعقاب منها لها، لتمر أشهر معدودة فتهدأ عاصفة الاستنكار والشجب بعدها، فيعود النشاط التجاري إلى ما كان عليه!؟.
وجواباً على تلك التساؤلات وغيرها أقول آسفاً محبطاً، بأننا قد زدنا الطين بـِلـّة بما صدر منا كردة فعل تجاه تلك الرسوم، ولا أجافي الحقيقة لو قلت بأن بعض ردات فعلنا قد رسخت "دون أن يعي من قام بها" تلك الصورة الشوهاء التي تعمد الإعلام الغربي زرعها في أذهان الرأي العام الغربي، كالاعتداء على رسام الكاريكاتير المسيء لرسولنا الأعظم محمد "صلى الله عليه وسلم" والتهديد بقتله كما نـُشر في أنباء في الصحف الغربية!!، ذاك من جانب، ومن جانب آخر، فإنه من الصعوبة بمكان أن يغير الغربي قناعاته التي تربى عليها وأن يتحرر بسهولة ويسر من الأفكار التي طالما لاقت رواجًا على مرِّ القرون الطويلة بأن نبينا محمدًا- صلى الله عليه وسلم- كان نبيًّا كاذبًا ومخادعًا ومحبًّا للشهوات وداهيةً سياسيًّا "حاشا لله أن يكون هكذا"، هذا كما وأن من الصعوبة بمكان أيضاً أن يتفهم الغربي ويعي معنى إجلال المسلمين الكبير لرسولهم- صلى الله عليه وسلم- وتوقيرهم إياه، ولقد سعى الغرب بخبثه المعهود إلى ترسيخ مفهوم "الإسلاموفوبيا" من خلال حملاته الإعلامية والسياسية المنظمة بهدف تشويه صورة الشخصية العربية الإسلامية، وغرس أن الدين الإسلامي يتسم بالعنف والعدوانية وأنه يدعم الإرهاب والتطرف، وما زاد الطين بلة، أن ذلك كله يجري في ظل غياب إعلام إسلامي واع يواجه الحملة الدعائية الغربية ضد الإسلام، ولقد كان من باب أولى بأنظمتنا العربية والإسلامية ومؤسساتنا الثقافية أخذ الحيطة والحذر في طريقة معالجتها لهذا المخطط والتصدي له من خلال استثماره بشكل فاعل لتبيان عظمة الإسلام ونبيه وقرآننا المجيد، وبالتالي توجيه ضربة نجلاء تقلب لهم موازينهم وتربك مخططاتهم الخبيثة وتنير درب المستغفلين منهم من الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام ورسوله الكريم!؟.
لقد كان لزاماً على أنظمتنا العربية والإسلامية وما تملكه من وسائل إعلامية وجيش جرار من الفقهاء الإسلاميين ورجال الدين أن تفطن لمسألة حرية الرأي التي تتبجح بها دول الغرب فأساءت من خلالها إلى نبينا وديننا، فتحاربهم بلغة المنطق والحجة والبرهان، وتظهر لهم تفرد وتميز قرآننا في الإعجاز العلمي والفكري والإنساني، تماماً كما فعل الشيخ الداعية الإسلامي الكبير أحمد ديدات "رحمه الله" الذي خدم الإسلام كثيراً من خلال مناظرات أجراها بشجاعة وثبات موقف مع قساوسة الغرب ورجال الكهنوت، وبما عقده من ندوات تلو الندوات مدافعاً عن الإسلام ونبينا الكريم، متنقلاً في عواصمهم ومدنهم الكبرى وفي عقر دارهم، فصحح من صورة التي شُوّهت في الغرب فكان أن استقطب الأنظار هناك بعدما فنـّد حجتهم فأسلم على يديه البرّتين آلاف النصارى من أبناء أوربا، أما الصراخ والعويل والتهديد والوعيد ومجرد الاستنكار فتلك لعمري ممارسات قد أضرت بنا كثيراً، وأما الدعوة لمقاطعة البضائع فتلك ذات تأثير محدود رغم أهميتها!!.
دعوة صادقة لأنظمتنا العربية والإسلامية "لاسيما الخليجية الغنية منها تحديداً" بأن تنشئ قنوات فضائية ناطقة باللغات الأوربية الحية "أسوة بما أنشأته من قنوات سياسية كالجزيرة والعربية وغيرها !!" تنحصر مهمتها في مخاطبة العقل الغربي وتحاوره بلغته الأم وذلك من خلال تنظيم برامج علمية وعقد الندوات وإلقاء المحاضرات وتغطية مناظرات تجري في قاعات خاصة محاكاة بما عمله الشيخ الجليل العلامة أحمد ديدات "رحمه الله"، يتم من خلالها استضافة علمائنا الأجلاء "من غير وعاظ السلاطين الفارغين والمداحين المداهنين للأنظمة بقصد الارتزاق!!"، لشرح وإظهار عظمة ديننا الحنيف وقرآنه المجيد، والتركيز تحديداً على جوانب الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وبكامل فروعه "علوم الطب والحياة، علوم الفلك والفضاء، علوم الأرض والبحار"، وإبراز احترام الإسلام الكامل لكافة الأديان السماوية والرسل والأنبياء، ولا ننسى أهمية ودور سفاراتنا العربية والإسلامية في لعب دور مساند لتلك القنوات، وبذاك نكون كمن اصطاد عصفورين بحجر واحد: الأول رد ناجع على الإساءة للرسول المصطفى "صلى الله عليه وسلم"، والثاني خير وسيلة حضارية لدعوة أبناء الغرب لاعتناق الإسلام.
قال الله سبحانه وتعالى في محكم آياته بحق نبينا محمد "صلى الله عليه وسلم": "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ"...(سورة الحجر:95)، وكما قال جل وعلا: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"... (سورة الشرح:4).
سماك العبوشي
20 آب 2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت