فلماذ هذا الترهل في دور فصائل اليسار التي تُعتبر فصائل تاريخية في العمل الوطني الفلسطيني، وقد دخلت في عُمرها عقود عدة من العمل السياسي والتنظيمي في عموم التجمعات الفلسطينية ومنها مخيمات وتجمعات الشعب الفلسطيني فوق الأرض السورية...؟
أزمات بنيوية وأزمات راهنة
نبدأ القول، إن حال قوى اليسار الفلسطيني وتراجع دورها وأدائها على كل المستويات ليس وليد اللحظة الراهنة، فقد دبت المشاكل والأزمات في مفاصل قوى وفصائل اليسار منذ أكثر من عقدين من الزمن، لتتراكم تلك الأزمات مع الأزمات العامة البنيوية التي كانت بالأصل تعاني منها تاريخياً تلك الفصائل، مع وجود حالات من الإحتراب السياسي والتنظيمي المستديم بين مختلف أطرافها، وهو إحتراب كان على الدوام فئوي وضيق ولاعلاقة له بالحسابات الوطنية العامة، وقد أستفادت منه قوى التيار الوطني الفلسطيني وتحديداً حركة فتح التي وجدت نفسها المعنية في تقرير الموقف والإستراتيجيات الوطنية الفلسطينية في ظل الإحتراب السياسي والفئوي لقوى اليسار، التي عجزت تماماً من أن تشكّل قطباً مؤثرا في المعادلة الوطنية الفلسطينية داخل منظمة التحرير وفي عموم ساحة العمل الوطني الفلسطيني.
إن جردة سريعة لتاريخ العلاقات بين عموم فصائل وقوى اليسار الفلسطيني منذ عام 1968 تظهر للملأ كم هي الثغرات والمطبات التي وقعت بها تلك القوى، وهي ثغرات قضت في نهاية المطاف على دورها المُفترض في الساحة الفلسطينية، فَرست بها المقادير حتى بدت كقوى هامشية لاعلاقة لها بالوقائع العنيدة على الأرض.
يضاف إلى ذلك أن حال قوى اليسار الفلسطيني تضعضع مع إنهيار منظومة الاتحاد السوفياتي السابق، ومع إنكشاف الغطاء الذي تلحفت به تلك القوى دون أن تراعي خصوصياتها الوطنية والقومية، فكانت معظم تلك القوى وعلى حد التشبيه الشعبي العام «ترفع المظلة في شهر يوليو في بلادنا عندما كانت السماء تمطر في موسكو)، معتقدة في الوقت نفسه بأن وجود الحليف الأممي (والمقصود الاتحاد السوفياتي السابق) يحفظ لها مكانة محجوزة في إطار منظمة التحرير وعموم المؤسسات الوطنية الفلسطينية. لذلك فإن التداعي الكبير في حضورها وتأثيرها جاء بعد تفكك منظومة الاتحاد السوفياتي السابق.
إضافة لما سبق، فإن بروز تشكيلات جديدة في الخريطة السياسية الفلسطينية كان أبرزها على الإطلاق نشوء وصعود حركتي حماس والجهاد الإسلامي، أضعف من حضور
قوى اليسار عموماً، ودفع بقطاعات واسعة من الناس للإنحياز والتعاطف مع قوى التيار الإسلامي بما في ذلك أعداد كبيرة من اليساريين السابقين.
لقد كان من نتائج بروز قوى التيار الإسلامي في فلسطين، وتعاظم دورها، نشوء ظاهرة الإنحسار الشديد في دور القوى اليسارية، التي وجدت نفسها منذ عام 1990 أمام معادلة جديدة في الساحة الفلسطينية، وأمام توالد قطبية ثنائية عنوانها حركتي فتح وحماس، دون أن تستطيع قوى اليسار من أن تشكّل قطبية ثالثة بغرض إعادة التوازن السياسي لمسار القرار الفلسطيني كما كانت ومازالت تنادي مختلف أطرافها.
نعم، لقد فشلت قوى اليسار الفلسطيني وعلى مدار سنوات طويلة من توحيد جهودها، ومن أن تصنع لنفسها قطباً سياسيا وتنظيمياً موحداً في مواجهة ثنائية قطبية باتت تسيطر على المشهد السياسي الفلسطيني منذ عام 1990 تقريباً. وهو فشل متوقع له أن يستمر مادامت تلك القوى تُكابر على نفسها ولم تتعلم من دروسها، ومادامت الفئوية والعصبيات التنظيمية الضيقة هي المسيطرة على تفكير مرجعياتها القيادية، وخصوصاً منها المرجعيات التاريخية التي تحمل أحقاد وكيد الماضي.
إن حال القوى اليسارية الفلسطينية اليوم، حال منقسم على ذاته بين تلك القوى، فمنها قوى تدور في فلك حركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، وعينها شاخصة على ماتريد أن تجنيه من إمتيازات حتى ولو كانت محدودة من المخصصات والكشوف الشهرية وحصتها من الكعكة من صندوق السلطة الفلسطينية، والتي باتت هي الهم الأساسي. ومنها القوى التي تدور في فلك القطب الآخر دون أن تقوم بخطوات ملموسة لتطوير دورها في العمل الفلسطيني السياسي والتنظيمي.
طاردة للكفاءات
ومع هذا، ومن منطق الإنصاف والموضوعية، لابد من القول بأن التيار اليساري العام يحظى بحضور جيد في مختلف أوساط الشعب الفلسطيني، لكن هذا التيار بعيد كل البعد عن مختلف الأطر والقوى اليسارية ومختلف مؤسساتها، بعد أن هَجرها وغادرها منذ سنوات وعقود نتيجة إشكالاتها وأدائها المتردي السياسي والتنظيمي، وقد تَحولت إلى تنظيمات طاردة للكفاءات والخبرات ولأصحاب المؤهلات، وتَحوّل بعض قيادييها إلى هواة تنفير وإقصاء.
فالمناخ اليساري بين عامة الناس شيء وحضور قوى وفصائل اليسار بين الناس شيء أخر. فهناك المئات من اليساريين الفلسطينيين أو من المحسوبين سابقاً على تيارات اليسار ينشطون مع القوى الاجتماعية الفلسطينية العامة، وحتى مع قوى «اليمين الوطني الفلسطيني» وفق تسميات وأدبيات اليسار الفلسطيني ذاته، ومع حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
إن منطق الإنصاف والموضوعية يدعونا للقول بأن فصائل اليسار الفلسطيني لعبت أدوارا هامة في محطات ومفاصل وإنعطافات وطنية فلسطينية هامة سياسياً وعسكرياً، خصوصاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقائدها الدكتور جورج حبش صاحب التاريخ السامي والنبيل في العمل الوطني الفلسطيني، كما هوحال حزب الشعب الفلسطيني الذي يمتلك حضوراً مؤسساتياً لابأس به في فلسطين. فقد ساهمت تلك الفصائل في إيقاد شعلة النضال الوطني الفلسطيني، وفي الإسهام بالعمل الفدائي المسلح على مدار سنوات طويلة، لكنها رسبت في إختبار العمل السياسي والتنظيمي الموحد بين مختلف فصائلها، وتشاجرت بل وتقاتلت مع بعضها البعض في محطات عديدة دون أدنى مبرر منطقي، ولم تصل في النهاية لتوحيد مواقفها بالرغم من إعلان بعضها البعض عن قيام تشكيلات اتحادية لم تلبث أن أنهارت بعد قترة قصيرة من قيامها، ومنها على سبيل المثال القيادة المشتركة للجبهتين الشعبية والديمقراطية عام 1984 والتي لم تُعمّر أكثر من عام واحد. كذلك القيادة الموحدة للجبهتين عام 1990 والتي إنتهت بعد شهور من إعلان قيامها. ومنها أيضاً الإطار المعروف باسم جبهة اليسار (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حزب الشعب الفلسطيني، الجبهة الديمقراطية) الذي نشأ قبل أربع سنوات في الداخل والشتات، لكنه مازال يراوح مكانه بعد أن وضعت الجبهة الديمقراطية شروطاً كثيرة لإستبعاد حلفاء يساريين من هذا الإطار لأسباب كيدية وفئوية ضيقة. فقد إشترطت الجبهة الديمقراطية إستبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني المعروف بحزب فدا من إطار جبهة اليسار، وهو فصيل من فصائل منظمة التحرير وقد إنشق عن الجبهة الديمقراطية عام1990 في إنقسام أفقي وعمودي ضرب مفاصل الجبهة وعموم هيئاتها بين عامي 1989 - 1990م. كذلك الحال بالنسبة لجبهة
النضال الشعبي الفلسطيني وجبهة التحرير الفلسطينية وهما تنظيمان يساريان فلسطينيان، وعضوان في منظمة التحرير الفلسطينية.
دورها في سوريا
على كل حال، إن تشريح حال اليسار الفلسطيني، يحتاج لنقاش طويل ومستفيض، ليس من موقع المناكفة أو الطعن به وبتاريخه، بل من موقع تشخيص أزماته المستعصية، التي إنعكست على أدواره المفترضة بين أبناء الشعب الفلسطيني في المخيمات والتجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية خلال الأزمة الراهنة في سوريا.
ففصائل اليسار الفلسطيني تتواجد تاريخياً في التجمعات الفلسطينية في سوريا، التي كانت المنبع الأساسي لعموم كوادرها في الشتات الفلسطيني، وقد غابت نسبياً تلك الكوادر وبتفاوت ملحوظ من فصيل يساري لفصيل يساري آخر عن القيام بدورها بين أبناء الشعب الفلسطيني في ظل الأزمة التي تعانيها سوريا وقد بات الفلسطينيون في سوريا داخل كرتها الملتهبة، وإن برز دور الجبهة الشعبية كحالة أفضل من غيرها.
وبعيداً عن التقييم النقدي لأدوار عموم الفصائل الفلسطينية في سوريا في ظل المحنة الحالية، فقد برزت في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سوريا وخلال الأزمة الراهنة أدوار حركتي حماس والجهاد الإسلامي عبر لجان الإغاثة الاجتماعية والأهلية، وفي إيواء النازحين من مناطق التوتر للتجمعات الفلسطينية ومدارس وكالة الأونروا، وفي العمل الخيري والتطوعي العام. كما برزت أدوار حركة فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/القيادة العامة التي تمتلك حضوراً وإمكانيات جيدة للتحرك في سوريا.
إن الفلسطينيين في سوريا بحاجة ماسة لدور ناضج وعملي من قبل كل القوى الفلسطينية ومن بينها قوى اليسار، وليس بحاجة لمواقف تنظيرية أو مواقف إعلامية لفظية (حكواتية) أو مواقف تبريرية عبر بيانات ممهورة بهذا الخاتم اوذاك. فالمطلوب تنشيط أدوار الجميع، فاللاجئون الفلسطينيون في سوريا بحاجة لدور ملموس من قبل عموم فصائله وقواه السياسية، وبحاجة لتكاتف الجهود الفلسطينية من أجل مساعدته وهو في عين المحنة وفي قلب العاصفة التي تضرب سوريا حالياً.
بقلم علي بدوان
صحيفة الوطن القطرية
الأربعاء 22/8/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت