أزمات فلسطينية عميق وإهمال دولي

بقلم: علي بدوان


تعاني السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله مجموعة من الأزمات الطاحنة، منها أزمات خارجية ومنها أزمات داخلية. ويتربع على رأس تلك الأزمات الخارجية وجود حالة من الإهمال الدولي المتعمد للوضع الفلسطيني، خصوصاً من قبل دول الإتحاد الأوربي والولايات المتحدة التي ترى بأن الأمور يجب أن تبقى مشدودة الآن تجاه مايجري في عدد من الدول العربية ومنها مصر وسورية نظراً للإعتبارات الجيوستراتيجية التي تتعلق بكلاً من مصر وسورية ودورهما إزاء التحولات الإقليمية الآتية بشكل عام.

إن الإهمال الدولي المُتعمد للوضع الفلسطيني، وغياب الإهتمام الرسمي العربي بمجريات الوضع الفلسطيني على مستوياته الداخلية والخارجية، دفع بحكومة بنيامين نتنياهو للإسراع بمواصلة توجهاتها المعروفة تجاه مسائل الإستيطان والتهويد خصوصاً في منطقة القدس ومحيطها وحتى داخل أحيائها العربية الإسلامية والمسيحية، مستغلة غياب العين الدولية المراقبة، وسيادة الصمت الدولي المريب.

كما أن حيزاً جديداً، كبيراً، وهاماً، من الأزمات الداخلية التي تعانيها الآن السلطة الفلسطينية في رام الله، يتمثل في وقف تدفق أموال الدول المانحة، وهو أمر يتوالد عنه صعوبات تتعلق بتأمين رواتب متفرغي السلطة الفلسطينية وموظفيها وأجهزتها وعموم مؤسساتها في الضقة الغربية والقدس وقطاع غزة وحتى في الشتات، وقد تم مؤخراً إقتطاع نسبة جيدة من رواتب الموظفين خلال الشهر الماضي تقارب (40%) من أجل تأمين وصول الحد الأدنى من الرواتب لمستحقيها.

وعليه فإن سلاح المقاطعة أو الحصار السياسي والضغط المالي، يمارسان الآن على مواقع القرار في رام الله في إطار عملية تمويت وإرهاق وإتعاب الفلسطينيين وإنهاكهم، ودفعهم نحو الركوع أكثر فأكثر. فالسلطة الفلسطينية تقدم الرواتب لأكثر من مائة وسبعين ألف موظف وعسكري ومتفرغ بين الداخل والشتات، وبالتالي فإن الأحوال الإقتصادية ومعيشة نسبة كبيرة من أبناء الشعب الفلسطيني تتوقف على الرواتب المقدمة من قبل الصندوق القومي الفلسطيني الذي يمثل في حقيقة الأمر وزارة المالية الفلسطينية للداخل والخارج.

لقد بادرت المملكة العربية السعودية لتقديم حزمة دعم مالي لميزانية السلطة في رام الله خلال الشهر الماضي عبر (شيك نقدي) بلغت قيمته نحو مائة مليون دولار أمريكي، إلا أن تلك الحزمة المالية لايمكن لها أن تشكل حزمة أمان جدية أو حزمة إنقاذ للوضع المالي الفلسطيني في مواجهة مرحلة صعبة في الوضع الفلسطيني الذي لاتنقصه أزمات جديدة في ظل الإنقسام السائد حالياً.

لقد كثرت الأحاديث والتحليلات المتعلقة بالأزمات المالية المتتالية في ميزانية السلطة الفلسطينية في رام الله، وهي أزمات يتوقع لها أن تتفاقم خلال الفترات القادمة. لكن الجوهري في الأمر أن السبب الحقيقي وراءها توالدها وإستمرارها يكمن من خلال عدة أسباب أهمها وجود الإحتلال ذاته، وعملية الربط الجائرة التي تمت للإقتصاد الفلسطيني بإقتصاد الإحتلال منذ توقيع إتفاق باريس الإقتصادي الظالم عام 1995، ودور الإحتلال المعطّل لعجلة تطور ونهوض الإقتصاد الوطني، وسياساته التي شلت وتشل حركة الإقتصاد الفلسطيني في مجالاته المختلفة، الصناعية، والزراعية بما فيها صيد الأسماك (في قطاع غزة)، والسياحة والبناء والتجارة الداخلية والخارجية (الإستيراد والتصدير) وبالتالي في الحد من الإستثمار الحقيقي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. فضلاً عن إستمرار سيطرة دولة الإحتلال "الإسرائيلي" على أموال الضرائب الفلسطينية وتوكيل الجهات "الإسرائيلية" بجني الأموال المتعلقة بالضرائب المجباة عن البضائع المتدفقة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وإقتطاع نسبة منها لصالح دولة "إسرائيل" كأجور وأتعاب للطرف "الإسرائيلي"، وهو ماترك تلك الأموال (التي تقدر بنحو سبعين مليون دولار شهرياً) بيد سلطات الإحتلال التي تمسك بها بقوة، وطالما إمتنعت عن تسليمها للجانب الفلسطيني في مرات عديدة خصوصاً خلال العام الفائت.

وفي هذا الجانب تشير مصادر مالية مسؤولة في السلطة الفلسطينية في رام الله، إضافة لتقرير الموازنة العامة للسلطة لعام 2012، بأن الإتفاق الضريبي مع سلطات الإحتلال يحقق ما نسبته (66%) من الإيرادات العامة للسلطة بإجمالي يبلغ نحو مليار ونصف المليار دولار أمريكي. وبالتالي، فإن صافي المحاصصة

الضريبية الجائرة والظالمة مع "إسرائيل" مضافاً إليها العوائد الضريبية الإضافية، تكفي وفي أصعب الأحوال وفي حال توقف الدعم الخارجي لدفع ثلثي رواتب موظفي السلطة وعموم أجهزتها في الداخل والخارج.

إضافة لماسبق، فإن هناك أسباباً إضافية وجوهرية، لها علاقة بأزمات السلطة المالية، وعلى رأسها الإستخدام السياسي الفظ من قبل معظم الدول والجهات الدولية المانحة للمساعدات المالية للضغط والتأثير على المعادلة الفلسطينية وعلى الموقف الوطني الفلسطيني بشكل عام، وحتى على خطوات المصالحة الفلسطينية كلما بدت بشائرها موجودة على الأرض، حيث تربط تلك الأطراف بين مواصلة الدعم والمواقف السياسية المعينة كما حدث في سبتمبر/أيلول الماضي عندما أوقف الكونغرس الأمريكي دعمه للسلطة الفلسطينية في رام الله إحتجاجاً على خطوة الرئيس محمود عباس بالذهاب للأمم المتحدة لطلب العضوية الكاملة لفلسطين في المنظمة الدولية.

وعليه، إن كسر الموقف الضاغط للدول المانحة على المعادلة الفلسطينية ومنها دول الإتحاد الأوربي، أمر ممكن ومتيسر، لكنه يفترض قيام الجهات العربية الرسمية وعلى مستوى الجامعة العربية بالتحرك من أجل دفع الدول المانحة للإلتزام والوفاء بتعهداتها المطلوبة منها دون أي ربط بالشأن السياسي الجاري على صعيد العملية السياسية بين الطرفين الفلسطيني الرسمي و "الإسرائيلي" والمتوقفة أصلاً منذ فترات طويلة.

إن الأزمات المالية التي تعانيها السلطة الوطنية الفلسطينية، وهي الجهة الرسمية الفلسطينية والمشرفة على الصندوق القومي الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، أزمة حقيقية وإن بالغ البعض في إعتبارها "أزمة مفتعلة" بغرض إستدرار عطف الموقف السياسي من قبل بعض الأطراف الدولية.

فالأزمة الإقتصادية للسلطة الفلسطينية نابعة بالأساس من وجود الإحتلال ذاته كما أسلفنا أعلاه، ومن وجود ربط جائر للإقتصاد الفلسطيني بإقتصاد الإحتلال، في سياق السعي "الإسرائيلي" لمنع قيام إقتصاد وطني فلسطيني حر وحقيقي يؤسس لدولة فلسطينية بكل ما للكلمة من معنى، وإستقلالية مالية فلسطينية بعيدة عن سطوة الإحتلال.

إن التحرر الإقتصادي الفلسطيني كما التحرر الوطني، والخروج من أعباء الإحتلال وضغوطه يفترض إعادة النظر بإتفاق باريس الإقتصادي الجائر الموقع بين السلطة الفلسطينية والطرف "الإسرائيلي" عام 1995، وهو إتفاق بات يقيّد الإقتصاد الفلسطيني، عدا عن فتحه الأسواق الفلسطينية أمام المنتجات "الإسرائيلية" بموجب بنوده المنظمة للعلاقات الإقتصادية والتجارية بين الجانبين (حيث تقدر نسبة البضائع الإسرائيلية التي تدخلها سلطات الإحتلال للسوق الفلسطيني بنحو ثمانين في المائة مقابل ثمانية عشرة في المائة فقط هي حصة المنتج الفلسطيني داخل أسواقه).

بقلم علي بدوان

صحيفة الحياة اللندنية

عدد يوم الخميس 23/8/2012


جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت