بادئ ذي بدء... قصر النظر عندنا نحن العرب، تتمثل بالمقولة القائلة "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، وقد يظن بعض أبناء جلدتنا الأكارم بأن مقالي هذا قد جاء دفاعا عن نظام بشار الأسد، ومناهضة مني لحق أشقائنا وأحبتنا في سوريا العربية في حياة حرة كريمة وتعدد سياسي مشروع ومنشود، ولقد فات هؤلاء وراح عن بالهم بأن الهدف من مقالي هذا كان الحرص على وحدة أرض سوريا العربية والخشية من قيام الغرب بامتطاء صهوة ثورتها وبالتالي سرقة أحلام أبنائها ... والله على ما أقول شهيد!!.
لن أستشهد بحديثي عن الدفاع عن سوريا شعبا وأرضاً وحضارة، بالتطرق إلى المستحيلات الثلاث التي كان قد ذكرها يوما الشاعر العربي فقال:
لما رأيت بني الزمان وما بهم
خلُّ وفيُّ للشدائد أصطفــــــي
فعلمت أن المستحـــيل ثلاثة
الغول والعنقاء والخل الوفي
لكنني سأستند بحديثي إلى ما عرفناه من مخلوقات الله تعالى فأتساءل: هل كنت ستصدق يوماً إذا قيل بأن فيلاً قد طار في السماء، أو أن حماراً راح يشجي الأسماع بصوته وهو صاحب الصوت المنكر المذكور في القرآن الكريم!؟، وقد أقول لأول وهلة متسرعا، لو كان ذاك سيحدث يوما، لكانت أمريكا قد صدقت بنواياها تجاه ثورة أبناء سوريا العربية ومطالبتهم بالاصلاحات السياسية والحزبية المنشودة، لكنني سأتدارك الموقف المتسرع ذاك فأزيد من الشعر بيتاً وأقول، فإن شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى – وهو القادر على كل شيء- أن نرى يوما فيلا يطير في السماء بخرطومه الطويل وجلده السميك، أو نسمع حماراً يصدح بأعذب الأصوات وأشجى الألحان، فإنني تالله وبالله لن أصدق تباكي الولايات المتحدة الأمريكية وبعض عرب الخذلان والانبطاح على شهداء شعب سوريا ودعوتهم الزائفة لإيقاف نزيف الدم العربي السوري المراق هناك وتبريرهم الكاذب بأنهم يسعون لتحقيق أحلام شعب سوريا في حياة حرة كريمة!!.
كفانا وهماً وخديعة تضحكنا بقدر ما أنها تبكينا، فالمسألة يا أحبة يا كرام في غاية البساطة والوضوح، فما يتحكم بنوايا الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص تجاهنا - نحن العرب والمسلمين - يتمثل بالحقد الغربي المتأصل ضد أمتنا العربية، ذاك الحقد النابع عن رعبهم من دين سماوي حنيف استطاع أن ينتشلنا يوماً من ظلام جاهلية كنا نعيشه، ويوحدنا تحت كلمة واحدة بعدما كنا قبائل متناحرة متقاتلة متصارعة في الجاهلية، لنسود بعدها العالم ونفتح الأمصار، فأسقطنا خلال عقدين من الزمن أكبر امبراطوريتين عرفهما التاريخ الغابر!!، فتوجس الغرب خيفة كلما تذكر ما كنا عليه من إجماع رأي وموقف، فراح يسعى حثيثاً وفق نهج مبرمج للإبقاء على تشتت هذه الأمة التي أكرمها الله بالإسلام، بل وزاد عليها فراح يسعى جاهداً لإحياء سايكس بيكو يعيد بها تمزيق هذه الأمة الممزقة أصلاً بتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، لنعود من جديد إلى ما كانت عليه في الجاهلية وقبل ظهور الإسلام العظيم، دويلات وكانتونات ضعيفة مهلهلة تتقاذفها أطماع من سيتسيد مشهدها من أبناء جلدة لنا ارتضوا الانبطاح والخذلان وحب الإمارة ولو على حجارة، ليعود حالنا كحال القبائل العربية المتناحرة المتصارعة أيام الجاهلية البغيضة، في ظل تخلف علمي واقتصادي نعيشه وهيمنة عسكرية للغرب!!.
تلكم هي الحقيقة المجردة أيها الكرام الأعزة!!، وما يعيبنا نحن العرب، أننا أمة لا تقرأ، وإن قرأت فهي لا تعي ما تقرأ، وإن أدركت مغزى ما قرأته فإنها للأسف الشديد لا تصنع لحاضرها ومستقبل أجيالها شيئا، وذاك لعمري ما قاله يوما "موشي ديان" فصدق بما قاله، فقلة منا نحن العرب هم الذين يقرأون وسط بحر متلاطم الأمواج من أمية ثقافية واسعة كانت من نتائجها أن الغالبية منا لا تقرأ التاريخ ولا الشواهد لتتعظ وتستخلص العبر، فإرادتنا قد كبلت، واستسلمنا تماماً إلا من رحم ربي وهم قلة قليلة لا دور ولا تأثير لها في مجتمعاتنا المغيبة المكبوتة، فلم نعد نقوى على إظهار ردة فعل حقيقية توقف نزيف تهاوي الأمة وخذلانها وهوانها وتكبح جماح ما يجري لنا، ومن منطلق شواهد تاريخية معاصرة فإنني أتساءل:
1. كم من أبناء العروبة الأماجد يعرف أن الجنرال الفرنسي هنري غورو بعد احتلال سوريا إثر معركة ميسلون كان قد ركل بقدمه النجسة قبر صلاح الدين الأيوبي وقال قولته الشهيرة "لقد عدنا يا صلاح الدين"!؟، وما الذي عناه بتلك العبارة!؟.
2. هل نسينا ما قاله الجنرال البريطاني اللنبي حين دخل القدس يوم 9 ديسمبر عام 1917 حيث قال قولته المشهورة: "الآن انتهت الحروب الصليبية"..!!، وما الذي تعنيه تلك العبارة!؟.
3. كم من أبناء العروبة قد سمع ما قاله برنارد لويس بحق العرب في مقابلة أجرتها معه إحدى الوكالات العالمية بتاريخ 20/5/2005م وأقتبسه نصاً: " إن الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية..."، ثم قال وأقتبس: " ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها..."!!؟.
4. وهل نسينا أم أننا تناسينا وغظننا الطرف تماماً عن خديعة بريطانيا العظمى للشريف حسين (رحمه الله) حين وعدته بدولة عربية كبرى موحدة إذا ما ساندها في حربها ضد الدولة العثمانية، وكيف أنها نكثت بوعدها فقسمت أرض العرب إلى دويلات سميت أقطاراً عربية تقاسمتها بريطانيا وفرنسا معا، فيما سلبت فلسطين وشرد أهلها وأقيم الكيان الصهيوني هناك حالما انتصرت بحربها آنذاك!!؟.
نردد دوما بأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، غير أننا سرعان ما ننسى ما يقع علينا من لدغات متكررة، وما تلك الشواهد التاريخية والتصريحات التي ذكرتها آنفاً إلا دليلاً دامغا ساطعا على حقد الغرب الدفين على أمتينا العربية والإسلامية، وأن الغرب لن يهدأ له بال ولن يهجع حتى يعيد العرب إلى ما كانوا عليه أيام الجاهلية من تفتت كلمة وتشتت مواقف وصراعات داخلية واقتتال وغزوات، ولقد صار يقيناً عندي بأنه ليس هناك من دعوة صادرة من طرف الغرب وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية إلا وتفوح منها رائحة التآمر والخيانة والاستهانة بتطلعات شعبنا العربي والإسلامي، وليس بالأمر المستبعد أن يكون الهدف من الصيحات الأمريكية الأخيرة الداعية لحماية حقوق المضطهدين من أبناء العروبة والقابعين تحت أنظمة عربية فاسدة قمعية، هو ركوب موجة التغيير العربي الأصيلة ومن ثم حرف وجهة مسيرتها وتجييرها لحساباتها ومصلحتها الشخصية، وتنفيذا لما كان قد خطط له!!، ولو عدنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء، إلى مطلع ثمانينات القرن المنصرم، حين صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي "بريجنسكي" إبان الحرب العراقية الإيرانية بضرورة تنشيط حرب خليجية ثانية لتستطيع من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية تصحيح حدود سايكس بيكو، وكيف سارع بعدها البنتاجون الأمريكي لتكليف المؤرخ الصهيوني برنارد لويس بالبدء بوضع أسس مشروعه الخاص بتفكيك الدول العربية والإسلامية وتحويلها إلى دويلات وكانتونات عرقية ودينية وطائفية ووضع الخرائط التوضيحية لمشروعه ذاك، وما أن وضعت الحرب العراقية الإيرانية أوزارها، حتى تحقق ما كان قد تمناه بريجنسكي بتصريحه ذاك، فجاءت حرب الخليج الثانية في أعقاب احتلال الكويت، وأعقبه حصار للعراق امتد لعقد ونيف من السنوات، ثم احتل العراق وتم فرض عملية سياسية قوامها المحاصصة الطائفية والعرقية البغيضة تمهيداً وإيذانا بالبدء بتقسيم العراق لثلاث دويلات عرقية طائفية متناحرة، وما هي إلا سنوات قليلة حتى انفجرت الأوضاع الشعبية في تونس ثم مصر نتيجة أنظمة فاسدة مهترئة ضاق بها أبناء شعبنا العربي في تونس ومصر، ليجد الغرب فرصته الضالة أخيراً لتحقيق ما رسم له، فحاول بمكر ودهاء، يسانده في مسعاه ذاك بعض عرب الخليج العربي، امتطاء صهوة حلم التغيير العربي الجميل الذي طال انتظاره لتأتي أحداث سوريا المأساوية والتي وصف أحداثها وما يجري فيها أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون حيث قال: ما يجري في سوريا أصبح "حربا بالوكالة" بين أطراف إقليميين ودوليين!!.
لقد صدق بان كي مون بوصفه ذاك، فالأنباء تتناقل عن لقاءات سرية ضمت تركيا والسعودية وقطر للتباحث بالشأن السوري، وعن دعوة إسرائيلية بآلية لنقل السلاح إلى الداخل السوري!!، وعن تواجد خبراء ومدربين عسكريين صهاينة على الحدود التركية السورية للإشراف الكامل على عملية تسليم الأسلحة إلى ما يعرف بالمعارضة السورية، وتدريب بعضهم على وسائل اتصال متطورة!!، وأن "إسرائيل" قد وافقت على طلب سعودي قطري بضخ المزيد من السلاح باتجاه مناطق محددة في لبنان وتحديدا في الشمال، إلى طوائف بعينها لإشعال اقتتال داخلي، وضرورة تفكيك سلاح المخيمات الفلسطينية!!، وأخيراً وليس آخراً ما تردد من أنباء عن تشكيل قوة إسلامية سعودية تركية قطرية برعاية أوربية، لتبرز جملة من علامات الاستفهام والحيرة:
1. ما الذي جمع العربية السعودية وقطر بتركيا والكيان الصهيوني!!؟.
2. ألم يع قادة العربية السعودية بعد بأن أمريكا لن تبقي علي وحدة أراضي المملكة، وبأنها قد حولت قطر (المتطلعة لدور إقليمي يفوق حجمها!!) إلي مخلب في الجسد العربي والخليجي بشكل خاص، وأن الفوضي قادمة إلي دول مجلس التعاون الخليجي كما تظهره خرائط لويس برنارد التي وضعها عام 1983 والمنشورة في كثير من المواقع الالكترونية الرصينة!؟.
3. وهل فكرت العربية السعودية وقطر وغيرهما بتشكيل قوة إسلامية عربية للدفاع عن عروبة فلسطين ومنع عمليات التهويد المستمر للمقدسات الإسلامية في القدس الشريف!؟، ثم ما هذه الهمة العالية للعربية السعودية وقطر للتدخل بالشأن الداخلي السوري بحجة إنقاذ شعبها من نظام لا يؤمن بالتعددية الحزبية والسياسية، فيما شعب فلسطين يرزح تحت احتلال صهيوني بغيض يلاقي ما يلاقيه من شتى صنوف هدر الكرامة والاضطهاد والقهر، والمقدسات الإسلامية قد دنست وراح المسجد الأقصى يئن جراء ما يجري تحته من حفريات لهدمه وإزالته ليقام بدلا عنه الهيكل العبري المزعوم!!؟.
لا أتجنى ورب الكعبة على قادة أمتنا العربية وحكوماتها المتعاقبة وساستنا وأولي أمرنا على امتداد الرقعة الجغرافية العربية وعلى مر العقود المنصرمة، فشواهد تاريخنا المعاصر لعمري كثيرة وهي تملأ القلب هماً وحزناً وكمداً، لاسيما تلك الوعود التي نثرت على رؤوسنا عن خطط وبرامج تنموية تهدف للنهوض بالواقع العربي، والحديث المطول المنمق المزركش عن مشاريع قومية تتصدى لمخططات العدو الصهيوني ووأد أطماعه، لنشم منها رائحة تدليس وتقصير وكذب تزكم الأنوف قد امتد لنصف قرن وشملت أكثر من جيلين كاملين زامنا تلك الحقبة المريرة دون بارقة أمل بسيط بتحقيقها، بل على العكس من ذلك تماماً، فالوضع العربي قد ازداد سوءً بعد سوء، وصارت الفجوة بيننا - نحن العربَ- وبين باقي شعوب المعمورة واسعة وكبيرة، حتى أن المحتل الغربي الذي كان قد طرد قبل سنوات خلت من أراضينا العربية بفعل سواعد أبنائه النشامى ورفضه الشديد لهيمنته قد عاد من جديد إلى المشهد العربي ليقف على أعتاب حدودنا فاغراً فاه وشاهراً سيفه ومكشرا عن أنيابه حاملاً أحلامه التوسعية التسلطية البغيضة، وإن كانت بذريعة ركوب ثورات التغيير العربي!!، ولن يكون مستغربا في ظل غياب الوعي العربي لو أننا رأينا بأم أعيننا كيف أننا نحن العرب قد عدنا ليوم الجاهلية، دويلات ومشايخ وكانتونات متصارعة متناحرة متنافرة، في ظل سطوة وهيمنة ما سيعرف بـ"إسرائيل الكبرى"!!.
قال تعالى في كتابه الكريم: "أفلمْ يسيرُوا في الْأرْض فتكُون لهُمْ قُلُوب يعْقلُون بها أوْ آذان يسْمعُون بها فإنها لا تعْمى الْأبْصارُ ولكن تعْمى الْقُلُوبُ التي في الصُدُور"...( سورة الحج:46).
سماك العبوشي
28/8/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت