شكلت البدايات الأولى لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 ،والاعتراف العربي والدولي بها ،نقلة نوعية في تأسيس النظام السياسي الفلسطيني التي جسدت هوية وكيانية الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ،وكأداة توحيدية للفعل الكفاحي الوطني من أجل استرجاع حقوقه المغتصبة ،وعملت كصيغة جبهوية موحدة بين فصائل العمل الوطني ،وبهذا فقد وضعت البذور الجنينية لنظام سياسي فلسطيني متطور يقوم على اسس التعددية السياسية ،والتعايش مع قانون وحدة وصراع الأضداد. ولكن وبدلا من تطوير صيغتها الجامعة ،وتعزيز الديمقراطية الداخلية ،منهجا وسلوكا تطال كل مؤسساتها التمثيلية السياسية والنقابية والمهنية والمؤسسات الشعبية ،سادت مظاهر الهيمنة والتفرد والهيبة ،والاستحواذ على المال والثروة ،لعب فيها المال العربي والسعودي دورا خطيرا في عملية الافساد السياسي والمالي بعد طفرة البترودولار خصوصا بعد حرب تشرين 1973 .
ومع الانتفاضة الكبرى عام 1987 التي اجتاحت الاراضي الفلسطينية المحتلة ،برز فيها دور الجماهير الشعبية ،كقوة دافعة ومحركة لها ،سمحت لحركة حماس تحت ضغط الشارع ولوجها ببرنامج سياسي مغاير لبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية ،تركز على رفض الاعتراف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني ، وممارسات صراعها مع القيادة الوطنية الموحدة ،وتنافست معها على الشارع الفلسطيني . وبعد الانتخابات التشريعية الأولى عام 1996 التي أدانتها شرعيا ووطنيا ،ورفضت المشاركة فيها بحجة أنها نتاج اتفاقية اوسلو،جاءت مشاركتها في الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006 ،واندماجها في النظام السياسي الجديد ،ثم انقلابها عليه ،فأحدثت بانقلابها انقساما حادا عموديا وأفقيا طال كل مناحي حياة المجتمع الفلسطيني السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية ،وشكلت ضربة موجعة للنضال والتمثيل الوطني الفلسطيني على الساحة العربية والدولية ،مما سهل على الاحتلال مواصلة مخططاته العدوانية.
ان النظام السياسي الفلسطيني يعيش أزمة واقع ومفاهيم ،والقانون الأساسي المعدل الذي ينظم العلاقة ما بين السلطة والشعب اصابه الجمود ،وفقدت السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية دورها الحقيقي ،وغاب معها سيادة القانون والحقوق والحريات العامة والشخصية. وإذا كان الانقسام قد أجهض اية محاولة لاستمرار الحياة لاجتماعات المجلس التشريعي الدورية والاستثنائية ،وأعاق عمله ليستجيب لحاجات المواطنين الحياتية والديمقراطية ،ومواجهة العدوان المتواصل للاحتلال الاسرائيلي على الشعب والأرض ،وفشل كل محاولات استعادة وحدة المؤسسات الشرعية ،فان قوى السلطة والمال يبدو انها تتعايش مع هذا الانقسام على الرغم من أن الجميع في غزة والضفة الغربية يقع تحت مقصلة الاحتلال وهجماته المتواصلة ليس فقط على المشروع الوطني الفلسطيني ،بل والوجود الفلسطيني على أرضه.
ان أحد أهم غائب عن الفعل الفكري ،والتأثير في الحياة السياسية الفلسطينية ،هو الوعي الحقوقي للمواطنين ،وتأثيراته الجدلية والمتبادلة الفعل بالوعي السياسي. ومع أن الوعي الحقوقي يعكس علاقة المواطنين بالحق القائم في المجتمع ،وجملة المواد التي يتضمنها الدستور والقانون والتي تحدد للمواطنين حقوقهم وواجباتهم ،وتبين شرعية هذا السلوك من عدمه ،فهذا الوعي لا يحدد وجودهم ،بل يتحدد وعيهم بوجودهم الاجتماعي ،ولا يمكن فصله عن الواقع الحياتي والسياسي للناس ،لقد جرى تجاوز القانون الاساس تحت مبررات وذرائع واهية لا تستقيم مع حقوق الناس ،فالسلطة التشريعية قد تعطلت ،وانتهت صلاحيتها القانونية ،وفقد أعضاء المجلس التشريعي صفتهم التمثيلية للشعب مهما حاول البعض الصاق صفة القدسية عليها ،أو اضفاء الشرعية على ظهر المواطنين ،او الحديث ان بقاءهم مرهون بالانتخابات التشريعية القادمة التي لا يعلم أحد متى تتم ،يعزز هذا الرأى فشل دوره التشريعي في اصدار القوانين والتشريعات ،والرقابة على السلطة التنفيذية .لقد انتهت مدة تمثيل الشعب ،ولا يمكن استمراره على هذا الشاكلة ،دون ضغط شعبي من الجماهير ،وقواها السياسية ،ومنظمات حقوق الانسان ومكونات المجتمع المدني من نقابات عمالية ومهنية ،وكافة المؤسسات الشبابية والنسوية كأدوات تغييرية للواقع المأساوية ،ويأتي في هذا السياق دورها في رفع مستوى الوعي القانوني للمواطنين ،فاستمرار هذا الواقع يعتبر تعديا صارخا على حقوق المواطنين واستخفافا بالقانون الاساسي المعدل .!!!
الى متي سيبقى التعتيم على الخرق الفاضح للقانون ،وتجاهل ارادة الناخب مع انتهاء الفترة القانونية المحددة للتشريعي . ان هذا يحتاج لمجموعة من الخطوات تنفذها القوى والأحزاب اليسارية ،والتجمعات الشبابية ،ورجال الفكر والسياسة ،ودعاة التنوير والشخصيات الوطنية ،ومنظمات المجتمع المدني في القيام بمهمتها بنشر الوعي الحقوقي بين المواطنين ،ووضع برامج تثقيفية ولقاءات وندوات ومحاضرات ونقاشات وخطوات تصعيدية لرفض واقع سرقة حقوق الناخبين ،بهدف رفع مستوى وعي المواطن العادي ،ومعرفة حقوقه وواجباته التي كفلها القانون .ان حقوق المواطن وواجباته هي أمور في غاية الاهمية ،لا بد من التمسك بها ،وعدم التساهل او التنازل عنها مهما كانت درجة الخوف والبطش والاستبداد الفكري والجسدي الذي يمكن ان يتعرض له المواطن جراء تمسكه بحقه القانوني والأخلاقي والوطني ،والذي يحتاج لقوى مساندة وداعمة له.
ويأتي ،دور الصحافة ووسائل الاعلام والاتصال الجماهيري ،ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة ،ومؤسسات التنمية الاجتماعية ،ونقابة المحامين حماة القانون والقضاء المستقل ،كأدوات مساعدة في ترسيخ الوعي والثقافة الحقوقية للمواطنين ،وتوجيه الانظار الى الاستلاب الذي يتعرض له المواطن وخصوصا ،بعد قرار حركة حماس تعطيل عمل لجنة الانتخابات المركزية وتحديث السجل الانتخابي في غزة ،ومساهمة دور الاعلام في ترسيخ مفاهيم الحقوق والواجبات للمواطن الفلسطيني ،والعمل على تحويل الوعي الحقوقي للمواطن الى المعرفة كثقافة مجتمعية وسلوك وحياة ،ولن نستثني دور الجامعات ومراكز البحث العلمي ،في تطوير المناهج الحديثة ،وتعميم مفاهيم الحق والواجب والديمقراطية السياسية والاجتماعية ،والتعددية السياسية ،والدفاع عنها.
كما يأتي تضافر الجهود من مؤسسات المجتمع المدني ومساهمتها في برامج التثقيف التوعوي لجيل الشباب والصبايا ورفع مستوى وعيهم الحقوقي والسياسي ،وتعزيز مفاهيم الديمقراطية السياسية والمجتمعية ،وحل الخلافات بطرق حضارية بعيدا عن سياسة التكفير والتخوين والسوبرمان للحكومة الربانية التي حتى الآن فشلت في حل مشكلة الكهرباء ،فكيف يمكن أن تحل كافة المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتعرض لها جزء من الوطن ،وخصوصا ان كل المؤشرات وتقارير الامم المتحدة تشير الى أن قطاع غزة لن يكون ملائما للعيش فيه إلا اذا جرى عاجلا تحسين حاجاتهم الضرورية من المياه والكهرباء والصحة والتعليم ،وإلا فالكارثة قادمة بحلول العام 2020 ؟؟؟
وعندما يعي المواطن حقوقه القانونية والسياسية ،فانه يمتلك الجرأة والشجاعة لمواجهة الخوف والإرهاب الفكري والجسدي ،ويتصدى لكل معتد على حقوقه الخاصة والعامة ،ويتمسك بحقه في المساهمة في النظام السياسي الفلسطيني ،وبهذا يتحول الوعي الحقوقي الى قوة مادية ،وأداة جبارة للتغيير الثوري .
طلعت الصفدي غزة – فلسطين
الاربعاء 29/8/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت