مبدأ استقلال القضاء وسيادة القانون
الحلقة الأولى : القضاء في الإسلام/1
القضاء من أهم أركان الدولة ومن أبرز مقوماتها ، به تصان الدماء والأموال والأعراض وكافة الحقوق ، فالاختلاف والتنازع بين الناس من فطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها ، فكان لا بد من الفصل فيما يقع بينهم من خصومات ، ولا يتحقق ذلك إلا بالقضاء ، ويمكن تعريف القضاء بأنه الإخبار عن الحكم الشرعي على سبيل الإلزام ، ومن العلماء من يطلق على القضاء مصطلح الحكم لكونه يكف الظالم عن ظلمه ، إذن فالحكم والقضاء هما يد العدالة وأداتها الفاعلة في تحصيل الحقوق واستيفائها لأن أحكام القاضي موصلة إلى الحق مصرحة به ، وتمثل تطبيقاً دقيقاً لشريعة الله سبحانه ، وهما أيضاً القوة التي يلجأ إليها الضعيف ليؤخذ الحق له والسيف الذي يشهر في وجه الباطل ليؤخذ الحق منه ، فلا شرف في الدنيا بعد الخلافة يعدل شرف القضاء ، فإنه مقام علي ومنصب نبوي تقلده الرسل ليقيموا حكم الله وشرعه بين الناس :
* قال تعالى { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } الحديد 25 .
* وقال سبحانه مخاطباً سيدنا داود عليه السلام { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ص 26 .
* وبه أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم قائلاً { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً } النساء 105 ، فتولى بنفسه صلى الله عليه وسلم منصب الحكم بين الناس فقضى بالحق بينهم وأسس دستور القضاء ورسم معالمه حتى أصبح نظامه محكماً مَصوناً متكاملاً حتى أصبح النظام الأمثل على وجه الأرض لأنه ربانيّ المصدر في قواعده ومبادئه وتفاصيله ، لذا فقد كثرت أقضيته صلى الله عليه وسلم ؛ منها مثلاً :
* قضاؤه على ماعز والغامدية المحصَنَيْن بالرجم لثبوت جريمة الزنا عليهما بالإقرار .
* وقضاؤه على العَسِيفِ البكر الذي زنا بامرأة محصنة بالجلد مائة جلدة تطبيقاً لقوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } النور 2 .
* ومنها قضاؤه صلى الله عليه وسلم بقطع اليد على المخزومية التي سرقت رغم شفاعة حبيبه أسامة فيها إذ لا شفاعة في الحدود تطبيقاً لقوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ } المائدة 38 .
* وقضى صلى الله عليه وسلم في خصومة بين الزبير ورجل من الأنصار حول مرور الماء من أرضه والتي نزل فيها قوله تعالى { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } النساء 65 .
* وقضى أيضاً بتطليق المختلعة من زوجها الذي كرهته عندما خافت ألا تقيم حقه أو تقصر في أداء واجباتها تجاهه مقابل رد ما بذله لها من مهر لقوله تعالى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } البقرة 229
وقد عَهِدَ صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه بالقضاء ووضح لهم المنهج الذي يجب أن ينتهجوه لئلا يحكموا بما شاءوا فقد ولّى علي بن أبي طالب على اليمن وأوصاه قائلاً { فإذا جلس إليك الخصمان فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء } رواه الترمذي ، وبعث معاذ بن جبل قاضياً على جزء من اليمن بعدما تأكد من معرفته أن القرآن الكريم والسنة النبوية والاجتهاد الصحيح هي مصادر الأحكام ومرجعية القضاء ، وأرسل أبا موسى الأشعري والياً وقاضياً على الجزء الآخر من اليمن وأرسل عتّاب بن أسيد والياً وقاضياً على مكة المكرمة بعد الفتح .
ومن أمثلة أقضية الصحابة رضي الله عنهم حكم علي رضي الله عنه في قصة الأسد الذي وقع في الزبية فأتى الناس ينظرون إليه فسقط رجل فيها فتعلق بآخر وتعلق هذا بالذي يليه فتعلق به رابع فخرّوا جميعاً في الزُّبْيَة فقتلوا فاختلفت قبائلهم على الدية فحكم عليّ رضي الله عنه على من شهد الحادثة من الناس بدية كاملة للرابع وبنصف الدية للثالث وبثلثها للثاني وبربعها للأول موضحاً سبب هذا الحكم ؛ فلما رفض البعض هذا الحكم طلب منهم التمسك به حتى يُعلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما أخبروا رسول الله { أجاز صلى الله عليه وسلم قضاء علي } رواه أحمد ، وتدل هذه الرواية على جواز الطعن في قضاء القاضي واستئناف الأحكام في المحاكم العليا .
ومن أمثلة قضاء معاذ بن جبل رضي الله عنه أن ناساً اختصموا إليه في يهودي مات وترك أخاً مسلماً فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { الإسلام يزيد ولا ينقص فوَرَّث الأخ } رواه أحمد ، وحكم أيضاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ في رجل مات وترك أخته وابنته فأعطى البنت النصف وأعطى الأخت ما بقي .
ومضى الخلفاء الراشدون المهديّون على نفس المنهج القضائي الذي اختطه الرسول صلى الله عليه وسلم للأجيال من بعده يردّون المظالم ويحفظون الحقوق ويقيمون شرع الله تعالى ، ويرسلون القضاة إلى مختلف الأقطار أو يقضون بأنفسهم ؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله ما يقضي به فإن لم يجد نظر في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن أعياه ذلك جمع رؤوس الناس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به .
والفاروق عمر رضي الله عنه عمل على استقلال القضاء وفصله عن عمل الوالي لاتساع البلاد ولكثرة الأعمال الإدارية والسياسية التي يقوم بها ؛ وجعل السلطة القضائية تابعة له مباشرة ؛ واستحدث فكرة الاختصاص في القضاء فجعل نظر القضايا البسيطة من مهمة السائب بن يزيد ؛ أما القضايا المعضلة فقد جعلها بيد علي بن أبي طالب و زيد بن ثابت . أما في عهد عثمان رضي الله عنه فقد جعل السلطة القضائية بيده في المدينة فهو الذي ينظر في الخصومات وجعل الصحابة المختصين بالقضاء مستشارين له في ذلك ؛ وأما خارجها فقد جعل أمر تعيين القضاة للولاة .
وقد سار علي كرم الله وجهه الخليفة الرابع على نهج عمر في فصل السلطة القضائية عن عمل الولاة واتبع نهج عثمان في تفويض الولاة لاختيار القضاة وذلك ضماناً لتحقيق العدالة بين الناس .
وفي عهد خلفاء بني أمية لم تتغير ملامح القضاء عنها في العهد النبوي أوفي عصر الخلافة الراشدة ؛ ولكن مقتضيات التطور أظهرت الحاجة إلى التدوين ؛ إذ إن التناكر بين الناس لم يقتصر على الحقوق فيما بينهم بل تعداها إلى الأحكام التي يصدرها القضاة فوجدت السجلات القضائية التي تدوّن فيها تلك الأحكام وأول ذلك ما كان من سليم بن عنز قاضي مصر زمن معاوية بن أبي سفيان .
ثم شهد القضاء الإسلامي في العصور التي تلت العصر الأموي كثيراً من التطور ، حتى أصبح علماً مستقلاً صنفت فيه الكثير من المصنفات العلمية ؛ وبرز فيه العلماء المتخصصون وأفردت له في كتب الفقه الجامعة أبواب مستقلة بعنوان "أدب القاضي" أو ربما أطلق عليه أحياناً "كتاب القضاء" .
من أبرز مظاهر هذا التطور الاستقلال القضائي ؛ فإن من فهم الشريعة حق الفهم وعرف حقيقة القضاء ومكانته عرف أنه فوق المناصب الوزارية وأرفع منها ؛ لأن مرجعيته شريعة ربه ولأنه مرجع الأحكام وعليه مدارها ؛ وهو ملاذ المظلومين فلا بد أن يكون حراً في إيقاف الباغين عن بغيهم ؛ فالقاضي لا يتلقى الأوامر من أحد من الهيئات الحاكمة ؛ ولا توجد أية سلطة في الدولة تملك نقض أحكامه أو إلغاءها – ما دامت قطعية- فالسلطة القضائية مستقلة لا تدخل لأحد فيها ؛ والحاكم لا يملك على القاضي إلا المشاورة ـ إذا كان مرجعية في الفقه والقضاء ، كما نص على ذلك عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري [ ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا أسلم لك ] ، فإن لم يكن الحاكم كذلك فلا يجوز للقاضي مراجعته أو مشاورته فيما يقضي به لأنه لا سلطان على القاضي إلا للشرع والقانون .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت