قطر

بقلم: عبد الستار قاسم

هذا مقال تحليلي اجتهادي، ومن كان لديه فكرة فليقدمها. أما الشتائم التي تسلح بها العلامة أبو زيد الذي وصفني باللص فلا تساهم في صناعة رأي وإنما تساهم في تدمير وطن. هذا ليس مقالا يعبر عن موقف خاص، وإنما عن تحليل لما رأيته عبر الزمن.

قطر أكثر دولة عربية مثيرة للجدل على المستوى السياسي، وتكثر حولها الآراء والمواقف والتحليلات والمشادات. لا يختلف حولها المعلقون والمحللون السياسيون فحسب، وإنما يتفتت حولها الشارع العربي الذي يزخر بالاجتهادات والظنون والحيرة. والأسئلة حول دور قطر على الساحة العربية كثيرة جدا، ومن الصعب أن يجد المرء إجابة شافية ونهائية. ما قد يظن المرء أنه سمة قطر السياسية، لا يلبث أن يتبدل بظن آخر وذلك تبعا لموقف سياسي جديد يصدر عن الإمارة.

لا أدعي أنني أملك إجابة قطعية حول دور قطر السياسي على الساحة العربية، لكنني أحاول في هذا المقال الاجتهاد بناء على متابعتي للسلوك السياسي للدولة ولقناة الجزيرة التي تعتبر منبرا إعلاميا مهما، وتشكل انعكاسا لسياسة الدولة ولو لم يكن بتطابق.

الجزيرة قدمت قطر للعرب

كانت قطر قبل الجزيرة في أذهان الغالبية الساحقة من العرب مجرد مشيخة من مشيخات الجزيرة العربية التي تحكمها قبيلة صنعها الاستعمار البريطاني وتتربع على ثروة لا بأس بها، ولم يكن يُحسب لها حساب لا على المستوى العربي أو الإقليمي أو العالمي. جاءت الجزيرة بنمط إعلامي جديد فتح أبوابا أمام العربي لمعرفة ما يجري على الساحة العربية سواء على المستوى القومي أو القطري، فأقبل عليها العرب حتى أصبحت مصدر المعرفة الأول في مختلف أنحاء الوطن العربي. تنوعت برامج الجزيرة وتعددت، لكن البرامج السياسية بقيت تحظى بالاهتمام الأكبر لأن العربي طالما تعطش لوسيلة إعلام لا تنطق باسم أنظمة عربية.

فتحت الجزيرة شاشتها أمام كتاب ومفكرين ومثقفين ومحللين عرب لم نكن نسمع أصواتهم من قبل، وعلت أصواتهم فوق أصوات كتاب ومثقفي الأنظمة العربية. لقد هزم مفكرو الأمة ومثقفوها منافسيهم من مثقفي الأنظمة في الغالبية الساحقة من اللقاءات التلفزيونية سواء في الاتجاه المعاكس أو أكثر من رأي، وشكلوا بؤر استقطاب جماهيرية واسعة تهدد عروش السلاطين في مختلف البلدان العربية. وتعزز هذا بإجراءات الأنظمة العربية ضد قناة الجزيرة، وأحيانا ضد الذين يظهرون على شاشتها، فتبلور لدى العربي انطباع بأن قطر دولة ريادية فتحت آفاقا جديدة للتغيير السياسي على الساحة العربية. صحيح أن قطر هي التي تمول الجزيرة، لكن الجزيرة وضعت قطر على الخريطة السياسية كدولة مؤثرة.

البعد القومي

من متابعتي لقناة الجزيرة، غلب على برامجها ومنطق مذيعيها البعد القومي، وعلت لهجة البعد العربي على خطاب القطرية والتمزق العربي. ظهر هذا البعد القومي في عدد من البرامج وهي الاتجاه المعاكس، بلا حدود، شاهد على العصر، أكثر من رأي. وظهر أيضا في التغطية الإخبارية فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني، ووظفت الجزيرة نفسها على مدار الساعة في كثير من الأحداث لصالح العرب. فمثلا، وقفت الجزيرة ببث مباشر مع حزب الله في حرب تموز، ومع حماس في مواجهة الحصار وحرب الكوانين 2008/2009، ومع ياسر عرفات في الحصار الذي ضرب عليه، ومع السلطة الفلسطينية في الاجتياح عام 2002، الخ. تبنت الجزيرة تغطية هذه الأحداث وما يشبهها بمتابعة مستمرة وبأدق التفاصيل، وحرصت على تحريض العرب لاتخاذ مواقف قومية بعيدة عن الخلافات الداخلية.

لكن من الملاحظ أن الجزيرة لم تكن حذرة في مسألتين وهما:

1- إدخال الصهاينة إلى بيوت العرب من خلال اللقاءات معهم، وتقديم وجهات نظرهم بأريحية. من الناحية المهنية، هذا يمكن تفهمه، لكنه لا يمكن فهمه من الناحية القومية. لم توازن الجزيرة بين المهنية والمصلحة القومية التي تتطلب عدم التطبيع، أو عدم القيام بالأعمال التي تكسر الحاجز النفسي بين العربي والإسرائيلي. وهذه مسألة قد لا تكون مجرد خطأ في التقدير، وإنما جزء من السياسة القطرية.

2- ضعف التركيز على دول الخليج والامتناع بقدر الإمكان عن تقديمها كإمارات قبلية بعيدة جدا عن الحداثة من النواحي الاجتماعية والسياسية والثقافية، ورائدة في الحداثة الاستهلاكية، وعملت بذلك على عدم استفزاز الوعي السياسي في هذه الإمارات. كما أن انتقادها لأداء أنظمة الجزيرة العربية كان مخففا إلا باتجاه اليمن المعروفة بفقرها وضعف إمكاناتها. خففت الجزيرة الضغط الإعلامي عن السعودية، وغازلت الإمارات والبحرين وعُمان والكويت.

البعد القومي القطري

لا تختلف السياسة القطرية القومية عن الرسالة التي حملتها الجزيرة عبر السنوات. من الملاحظ أن القيادة القطرية انحازت بصورة عامة للقضايا القومية العربية التي لا تأتي على الحكم بعداء من الشرق أو الغرب. أي أن الانحياز القطري بقي حذرا جدا بحيث لا يثير امريكا والدول الأوروبية، ولا يثير إيران أو غيرها من دول الجوار. انحازت قطر لجنوب لبنان إبان حرب عام 2006، لكن الانحياز أخذ البعد الإنساني دون المساعدة في المجهود الحربي. قدمت قطر مساعدات مالية ضخمة لجنوب لبنان، وزار أمير قطر مواقع لبنانية تضررت من العدوان الصهيوني، لكنها لم تقدم بندقية واحدة لحزب الله، وتعاطفت مع غزة وقدمت أموالا لمواجهة الحصار المضروب على القطاع، لكنها لم تساهم في دعم المقاومة الفلسطينية في مواجهة الصهاينة.

في بعدها العربي، حرصت القيادة القطرية على عدم استفزاز الولايات المتحدة الأمريكية او إيران أو أي من دول الجوار المتاخمة للوطن العربي، ولم تكن معنية باستفزاز إسرائيل. لكن انحيازها باتجاه الغرب بقي واضحا من حيث وجود قوات عسكرية أمريكية على أرضها وبالتحديد قاعدة العيديد العسكرية. تتحدث قطر عن حسن الجوار، وتعلن أنها لن تسمح للقوات الأمريكية الموجودة على أرضها بالعمل ضد إيران، لكنها لا تفسر لماذا تقبل بقوات أمريكية على أراضيها علما انها ترتبط بمعاهدة دفاع مشترك مع أمريكا.

مراعاة قطر للسياسات الغربية تجاه الفلسطينيين واضحة في أن قطر تقدم مساعدات للفلسطينيين ضمن رؤية إنسانية ومقاربة ديبلوماسية، ولا تقدم مساعدات عسكرية أو أي مساعدات أخرى من شأنها دعم المقاومة الفلسطينية. وقد أقامت قطر علاقات تجارية مع إسرائيل حتى انعقاد مؤتمر غزة في قطر، والتقى بعض قادتها مع قادة إسرائيليين.

قطر والحراك العربي

مثلما تبنت الجزيرة الحراك العربي في مواجهة أنظمة الحكم، وقفت قطر مع هذا الحراك، وعادت الأنظمة العربية والحكام العرب لحساب المتظاهرين او المقاومين. وقد لاحظنا أن قطر وقفت مع المعارضة المصرية والتونسية على الرغم من أن الدول الغربية وبالأخص الولايات المتحدة لم تكن راضية عن تغيير نظامي الحكم في البلدين. وقف نظاما الحكم السابقين في مصر وتونس مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، وكانا جزءا من تحالف عربي صهيوني أمريكي غير معلن، لكن قطر أبدت تشجيعها للتغيير من أجل تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية في الدولتين.

في المثالين الليبي والسوري، وقفت قطر ضد النظامين وتعاونت مع الدول الغربية وبالأخص الولايات المتحدة من أجل تعزيز المعارضة وتسليح المقاومين. وضعت قطر يدها بيد حلف الأطلسي، أو بعض دوله وساهمت مساهمة مباشرة بالمال والسلاح من أجل إسقاط النظامين. هذا علما أن إسرائيل دخلت على خط دعم المعارضة المسلحة في سوريا من خلال عملائها اللبنانيين. أي أن قطر أصبحت بإرادة واعية أو غير واعية متحالفة مع إسرائيل ضد النظام السوري. هنا تناقض كبير من حيث أن قطر تجرؤ على تقديم سلاح في ليبيا وسوريا، لكنها لا تقدم سلاحا لحماس وحزب الله.

ليس من السهل اتهام قطر بخيانة الأمة العربية من هذه الزاوية لأنها وقفت ضد نظام عميل لإسرائيل وهو نظام حسني مبارك، وضد نظام يدعم المقاومة ضد إسرائيل وهو النظام السوري. فهل تحمل قطر مبدأ الحرية للمواطن العربي مهما كلف هذا من اتهامات من هذه الجهة أو تلك؟ وإذا كانت مع حرية المواطن العربي، لماذا تقبل قواعد عسكرية أجنبية على أرضها؟ ولماذا لا تدعم المقاومة ضد الصهاينة؟ هل يقبل المبدأ التجزئة: فتكون قطر تارة مع وتارة أخرى ضد؟

أمير قطر

قطر ليست دولة مؤسسات سياسية، وإنما دولة يقودها أمير مع بعض مساعدين يختارهم هو، لكنه مختلف عن أمراء الخليج الآخرين بالتالي:

1- يحمل أمير قطر طموحا يصعب على الكاتب تحديده. فهو ليس مجرد شيخ عربي يحمل كيس الأموال في جيبه ويشيخ على الآخرين بماله وجاهه، وإنما يحمل تطلعات نحو شيء ما لم يفصح عنه هو حتى الآن.

2- يتحدث أمير قطر بمنطق بغض النظر عن اختلافنا او اتفاقنا معه، فهو لا يقف أمام الإعلام يتحدث بكلام غير مترابط أو عشوائي لا قيمة له، وإنما يحمل خطابا فيه منطق وترابط.

3- لدى أمير قطر رؤية نحو المستقبل، وهو يسير ببلاده نحو تحقيقها، لكنها رؤية لا تنفصل عنه هو شخصيا وإنما مرتبطة به. أي أنه لا يقدم فلسفة تشكل نظرية سياسية متكاملة يحملها أتباع له على اتساع الوطن العربي، وإنما لمحات تحمل في طياتها التقدم دون أن تتحرر من رؤيته لتحقيق ما يراه هو الشرف العظيم. ربما يبحث الأمير عن إنجازات كبيرة يدخل التاريخ من خلالها.

4- للعلم قيمة لدى أمير قطر، وقد عمل عبر السنوات على تشجيع التطوير العلمي في مختلف المجالات على الرغم من قصور في تحرير العلوم الاجتماعية من التقليد العربي وبعض الفقه الإسلامي الدخيل على الإسلام.

استنتاج

أمير قطر ليس ميكافيلليا ولا أفلاطونيا، وقطر لا تنتهج سياسة غامضة تماما، لكن توجهات أمير قطر ما زالت غامضة ومعها تبقى الرؤية الخلفية للسياسة القطرية. يحاول الأمير رفع شأن قطر، لكن هل هذا من أجل قطر، أم أنه من أجل شخصه؟ الأيام ستجيب، وتقديري العام الآن هو أن أمير قطر يفرض نفسه على الساحة العربية تبعا لرؤية مفادها أنه قادر على التأثير سواء من الناحيتين المالية والسياسية، وأن رأي قطر لا يمكن تجاهله. إنه يحاول ترجمة طموح مخزون لديه بأفعال على الأرض، وفهم الطموح لا يتأتى إلا من خلال تحليل السياسات العملية التي ينتهجها.

لا بد أن أمير قطر يفكر كثيرا بمعوقات صعوده كزعيم عربي بارز وتاريخي. هو يملك قدرة مالية كبيرة، لكن قطر، وبالتالي من يجلس على عرشها، ليست مؤهلة جغرافيا وسكانيا واقتصاديا للقيادة. قطر صغيرة المساحة وقليلة عدد السكان واقتصادها ريعي غير قادر على توفير بعد استراتيجي للقيادة والبقاء. ولهذا نرى تجاهل عدد من القادة والزعماء على المستوى العالمي لقطر، في حين أنهم يبجلون دور السعودية على الرغم من قربها السياسي من مرحلة القرون الوسطى.

فهل تصعد قطر؟

إذا كان تقديري المختصر صحيحا فإن مراعاة ما يلي أولوية:

1- المال وحده لا يصنع قيادة، وإنما يأتي في الغالب بالمنافقين الذين يديرون ظهورهم لرب المال إذا انقطع ماله.

2- لا يمكن تحقيق زعامة قومية بعلاقات طيبة مع أمريكا وإسرائيل. هاتان دولتان ومعهما دول غربية تتناقض سياساتها مع وحدة العرب والمسلمين واستقلالهم.

3- يفشل الطامح إلى القيادة إن لم تكن لديه رؤية أو فلسفة يطرحها على الناس وتتمشى مع طموحاتهم وتطلعاتهم على المستويين الخاص والعام.

4- فتح أبواب قطر أمام المثقفين والمفكرين والخبراء والعمال العرب ليس كأجراء وإنما كمواطنين لزيادة عدد السكان، ولتكريس الوجه العربي العام للدولة.

5- الأمن لا توفره أمريكا لقطر أو غيرها، إنما الحماية الشعبية هي التي تفعل ذلك.

وإلا فإن جهود قطر وأميرها ستبقى ذات مفعول آني وظرفي، يتلاشى رنينها تدريجيا، وربما تجمع له أعداء أكثر من الأصدقاء.

--
نُشر على الجزيرة نت

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت