العمل بالخلع القضائي في المحاكم الشرعية انتهاك للشريعة والقانون
أستميح الأخوة القراء عذراً عن قطع سلسلة استقلال القضاء وسيادة القانون لبيان مسألة غاية في الأهمية هي مسألة الخلع القضائي الذي أُلزم القضاة العمل به (وبمسائل أخرى معه) في المحاكم الشرعية منذ مطلع هذا الشهر ، فأقول :
إن سيادة القانون والعدل هما أساس الحكم الرشيد ، ولكن مما يؤسف له أن كثيراً من مبادئ القانون تتعرض يومياً لانتهاكات صارخة في هذه الديار المباركة ؛ أرض النبوات ومهبط الرسالات ، ومنها مبدأ استقلال القضاء عن التدخل في شؤونه وقراراته ، ومنها مبدأ سيادة القانون وعدم أخذ الحق باليد والقوة الغاشمة ، ومنها أيضاً مبدأ علنية جلسات المحاكمة الذي كفلته كافة الدساتير والقوانين في دول العالم للرقابة على القضاة ولضمان حيدتهم ونزاهتهم ، ومؤخراً ينتهك مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة التشريعية والقضائية والتنفيذية ، بحيث أصبح المواطن الفلسطيني لا يفرق بينها نتيجة التداخل والتدخل فيها .
فقد صدر في نهاية الشهر الماضي عن المجلس الأعلى للقضاء الشرعي ما يسمى بقانون الخلع الرضائي بناء على اجتماع هيئتي محكمة الاستئناف الشرعية وهيئة المحكمة العليا الشرعية ، وبناء على الاجتماع الدوري للقضاة الشرعيين ـ ولست أدري كيف يصدر قرار بناء على اجتماع القضاة قبل انعقاد اجتماعهم بيومين !
إن صدور هذا القانون عن السلطة القضائية يعتبر افتياتاً على السلطة التشريعية في الدولة وتعد على صلاحياتها ، فقد فَصَلَ القانون الأساسي الفلسطيني النافذ بين السلطات الثلاثة ، جاء في الفقرة الأولى من المادة (47) [ المجلس التشريعي الفلسطيني هو السلطة التشريعية المنتخبة ] ، وجاء في المادة (63) [ مجلس الوزراء (الحكومة) هو الأداة التنفيذية والإدارية العليا التي تضطلع بمسؤولية وضع البرنامج الذي تقره السلطة التشريعية موضع التنفيذ ... ] ، وجاء في المادة (97) [ السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها ، ... ] .
وهذا شأن الدول التي تحرص على سيادة القانون وتحقيق العدالة بين مواطنيها ، فالغالبية العظمى لدول العالم اليوم يسود فيها النظام الدستوري القائم على الفصل بين السلطات ـ سواء في ذلك النظام الملكي والجمهوري ـ أما النظم الاستبدادية التي تمسك بالسلطات الثلاثة في يدها فقد ولى عصرها وزالت ، وإن وجد منها اليوم قليل فهو إلى زوال أمام ثورات الشعوب الرافضة للظلم .
وعندنا في فلسطين تتكون الأدوات التشريعية من التشريعات الأصلية والتشريعات الفرعية ، والتشريعات الأصلية هي :
1- القانون الأساسي : هو مجموعة القواعد القانونية التي تحدد شكل الدولة وسلطاتها العامة ونظـام الحكم فـيها ، وتبين الحقوق العامة والحريات للأفراد قِبَلَ الدولة ، ويقره المجلس التشريعي بأغلبية ثلثي أعضائه ثم يصادق عليه من قبل رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية .
2- القانون : وهو التشريع العادي الذي يتضمن مجموعة من القواعد والأحكام التفصيلية التي تنظم حياة الناس وعلاقاتهم فيما بينهم ومع غيرهم ، ويقره المجلس التشريعي وفق إجراءات محددة ، ثم يصادق عليه رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ، ويصبح نافذاً بعد نشره في الجريدة الرسمية وهي جريدة الوقائع الفلسطينية .
3- القرار بقوة القانون : وهو التشريع الذي يصدره رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في غيـر أدوار انعـقاد المـجلس التشريـعي وفي حالات الضرورة التي لا تحتـمل التأخير ، ويعرض على المجلس التشريعي في أول جـلسة يعقدها بعـد صدوره ، فإذا أقره أو عدله أصبح قانوناً عادياً نافذاً ، أما إذا لم يقره فيزول ما كان له من قوة القانون والنفاذ .
4- المرسوم الرئاسي : يصدر عن رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في حالات محددة ومحكومة بسقف دستوري كإعلان حالة الطوارئ عند وجود تهديد للأمن القومي بسبب حرب أو غزو أو عصيان مسلح أو حدوث كارثة طبـيعية لمـدة لا تزيد عن ثلاثين يوماً تمدد لمدة مماثلة بعد موافقة المجلس التشريعي الفلسطيني بأغلبية ثلثي أعضائه ، وخضوع الإجراءات المتخذة للمراجعة من قبل المجلس التشريعي .
أما التشريعات الثانوية الفرعية كاللوائح والأنظمة فهي تضع التفصيلات اللازمة لتنفيذ القوانين من قبل السلطة التنفيذية (كمجلس الوزراء) دون زيادة شيء جديد عليها أو تعديلها أو تعطيلها ، فلا يصح مثلاً أن تخالف هذه التشريعات الفرعية أي نص في القانون أو تنسخه ، وتستمد شرعيتها من عدم مخالفتها القوانين والتشريعات الأصلية .
مما سبق يتأكد لنا إذن أن مهمة التشريع تنحصر في السلطة التشريعية (المجلس التشريعي) وهم الأفراد الذين اختارهم الشعب ليمثلوه في سن القوانين ؛ باعتبار القانون عقداً اجتماعياً ، وتنحصر أيضاً في رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في حالة الضرورة المشروطة ، ولا تملك ذلك أية سلطة أخرى في الدولة ، فبالرجوع ـ بعد القانون الأساسي ـ إلى قانون تشكيل المحاكم الشرعية رقم 19 لسنة 1972 النافذ حالياً في فلسطين نجد أنه نص على تشكيل المجلس القضائي وحدد مهامه قصراً وليس من بينها التشريع أو سن القوانين ، ومثله المراسيم الرئاسية العديدة الصادرة عن رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية بتشكيل المجلس الأعلى للقضاء الشرعي منذ عام 2003 م وحتى العام الحالي .
يضاف إلى ذلك أن اجتهادات القضاة وتفسيراتهم للنصوص القانونية غير ملزمة لأي قاض ، فالقرارات الاستئنافية مثلاً هي أحكام اجتهادية يستأنس بها بعض القضاة ، وهي غير ملزمة حتى لمحكمة الاستئناف ذاتها ؛ إذ إن لها التراجع عن المبادئ القضائية التي قررتها في قضايا سابقة كما نصت على ذلك المادة رقم (150) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم 31 لسنة 1959 النافذ في فلسطين ، ويتم ذلك بانعقاد هيئة خماسية ، ويشترط فيها ألا تخالف نصاً قانونياً أو حكماً شرعياً ، فالقاعدة الفقهية تنص على أنه [ لا اجتهاد في مورد النص ] .
والأسئلة التي تطرح الآن وجوباً هنا حول هذه المسألة كثيرة جداً وخطيرة جداً وإجاباتها أخطر :
* هل الحكم الصادر بفسخ عقد زواج المرأة بناء على القانون المزعوم المخالف للقانون الأساسي والقوانين المرعية يحللها لأن تكون زوجة لزوج جديد ؟ أم هل ستبقى الرابطة الزوجية بينها وبين زوجها الأول قائمة شرعاً وقانوناً ؟
* فما مدى تأثير تطبيق هذا القانون الجديد على استقرار الأحكام القضائية للمحاكم الشرعية ؟
* وما موقف المحامين الشرعيين من الأحكام الصادرة ضد موكليهم ؟ أليس لهم أن يستأنفوها وأن يطعنوا فيها لمخالفتها القانون الأساسي والقوانين الأخرى المنظمة للعمل في المحاكم الشرعية ؟
* ألا يعرضها ذلك مثلاً للإبطال أمام محكمة الاستئناف الشرعية بصفتها محكمة قانون ؟ وهل محكمة الاستئناف ستصدقها أم ستفسخها ؟ ما هو القانون الذي ستلتزمه محكمة الاستئناف لتدقيق قرارات المحاكم الابتدائية ؟
* والمحكمة العليا الشرعية بصفتها هي الأخرى محكمة قانون هل ستؤيد قرارات محكمة الاستئناف أم ستتنقضها ؟ هل ستلتزم بالقانون أم بهذا التشريع المخالف للقانون ؟
* والمحكمة الدستورية بم ستحكم لو لجأ إليها أي محام أو أي طرف من أطراف الدعوى ؟ هل يمكن أن تحكم بدستورية تشريع صدر عن غير الجهات التشريعية وبعيداً عن القنوات التشريعية الدستورية .
نص قانون الأحوال الشخصية المؤقت رقم 61 لسنة 1976 النافذ حالياً في فلسطين في المواد (102-112) على المخالعة وهي الطلاق بإرادة الزوجين المشتركة باعتبارها عقداً رضائياً بينهما لحل عقد الزواج سواء في ذلك قبل الدخول وبعده ، فلا حاجة ملحة الآن لمخالفة هذا القانون بالخلع القضائي المزعوم إلا إذا رأى المشرع الفلسطيني سن قانون حسب الأصول المشار إليها آنفاً وبالأخص أن الطلاق مقابل الإبراء العام المعمول به في المحاكم الشرعية يوفي بالغرض لحين حصول ذلك . وقد أعددنا مشروعاً لقانون الأحوال الشخصية الفلسطيني بجهود ذاتية في ديوان قاضي القضاة والمجلس الأعلى للقضاء الشرعي استمر العمل لإنجازه أكثر من عشر سنوات ورفع في حينه إلى الرئاسة وإلى مجلس الوزراء وإلى المجلس التشريعي لإقراره حسب الأصول الدستورية المتبعة في فلسطين ، ويتضمن من ضمن نصوصه الخلع القضائي قبل الدخول وبعده حسب أحكام الشريعة الإسلامية .
ونصت المادة رقم (183) من القانون على أن [ ما لا ذكر له في هذا القانون يرجع فيه الى الراجح من مذهب أبي حنيفه ] ، فهذه المادة تلزم القاضي الشرعي بالرجوع إلى الراجح من المذهب الحنفي لدى إثارة الخصوم أية مسألة في الدعاوى المرفوعة أمامه ، وبناء عليها فإذا كانت المسألة المثارة مما لم يتعرض له المذهب الحنفي فلا يجوز تبنيها أو الرجوع فيها إلى أي مذهب آخر بغير سند قانوني ؛ إذ إن أقوال العلماء واجتهاداتهم الفقهية جميعاً تتساوى أمام هذه المادة ، وإن أخذ أي قول منها يعتبر باطلاً ومخالفاً للقانون ما لم يصدر عن الجهة التشريعية المختصة .
المحامي الدكتور تيسير التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت