الاحتجاجات وتقييم تجربة السلطة الوطنية/د. إيهاب أبو منديل

بعد تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية، والتي اعتبرت الدائرة الخامسة لمنظمة التحرير، بدأ يتشكل في الساحة الفلسطينية واقع جديد بكل ما تعنيه الكلمة من معاني، فقد وُلدت السلطة من رحم المرحلة السابقة بكل سلبياتها وإيجابيتها، إلا أن ما ميزها أنها جاءت محكومة ومقيدة بنصوص الاتفاقيات التي وقعتها السلطة مع الأطراف الأخرى، ويمكن تحديد التحولات التي استجدت في عهد السلطة الوطنية في التالي:
- انتقال مركز الثقل السياسي من المنظمة إلى السلطة.
- قيود أوسلو والاتفاقيات الانتقالية السياسية والاقتصادية التي حكمت أداء السلطة وارسائها لنظام سياسي واقتصادي ريعي يعتمد على المعونات الخارجية.
- التقسيم والتجزئة للكيانية الجغرافية، وفق وضعية المنطقة.
- الضعف البنيوي والوظيفي في مسار تجربة النظام المتشكل في نطاق منظمة التحرير.
- الممارسات الإسرائيلية وتعثر المفاوضات بين الجانبين.
- تداخل السلطات والمؤسسات وغالباً ازدواجها.
- المناخ السياسي التنافري بين مؤيد ومعارض لأوسلو.
- انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية على نفسها وصراعها على السلطة, وقد تكلل ذلك بتقسيم الوطن إلى جزئيين جغرافيين منفصلين وإلى سلطتين متحاربتين تستند كل منهما لشرعية, وهو ما جعل الصراع مع إسرائيل مختلفاً هذه المرة .

على ظلال هذه المستجدات تحولت الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها من حركة تحررية إلى حركة استقلال، ومن حركة سياسية إلى حركة تعنى بالشؤون الإنسانية والبلدية، لا سيما بحكم حالة الاعتماد الكلي على المعونات الخارجية بأشكالها المختلفة.

وفي حين أن اتفاقيات التسوية سمحت بإقامة حكم ذاتي وسلطة فلسطينية وإجراء انتخابات تشريعية أولى وثانية، لكنها أيضاً حملت في طياتها عدم إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة سياسياً أو إقتصادياً بسبب غياب العوامل الأساسية المتعلقة بالسيادة وخضوع الاتفاقيات نفسها للتأويلات والتفسيرات المتضاربة وتلاعب الجانب الإسرائيلي، وهو ما كرس الاحتلال بمعنى أو آخر.

كما أن تداخل مهام التحرر الوطني ومهام البناء المؤسساتي في السلطة، وتحول الحركة السياسية من حركة تحرر وطني في المنفى إلى جهاز حكومي، أدى إلى تحول خطاب التحرير إلى استراتيجيات وتكتيكات متناقضة لا تميز بين أهدافها المرحلية وثوابتها، الأمر الذي أدى إلى تفريغ البناء المؤسسي من مضمونه، وتفريغ الخطاب السياسي التحرري من محتواه.
رافق ذلك عملية بناء اقتصاد وطني هش ومفكك وذو تبعية شبه مطلقة للاقتصاد الإسرائيلي, وما نجم عن ذلك من ضعف للبرجوازية المحلية, وتفتت للطبقة العاملة, واستيعاب أعداد كبيرة في مؤسسات السلطة والتى تعتمد على مصادر تمويل خارجية, ومن هنا أصبحت سمتها الرئيسية الريعية.

اضطرت السلطة إلى الاعتماد, إلى درجة مؤثرة, على مساعدات الدول المانحة, وهو ما جعلها عرضة لاعتماد سياسات وتوجهات ومفاهيم قد تتعارض مع الأولويات الوطنية على صعدها المختلفة, وحتى محاولات تقييم السلطة بمناخ تأثيرات دولية كالبنك الدولي والدول المانحة تهيمن عليه أيدلوجيا الاصلاح الاقتصادي والتنمية المستدامة وإعادة الهيكلية وتقليص دور الدولة إلى حدوده الدنيا, وهو المناخ الذي يميز الكثير من الأنظمة في المنطقة.

بذلك تفاقم المأزق الوطني المتعدد الجوانب, ونمت حالة الانكشاف والعجز المعيشي, وتراجعت مستويات المعيشة لفئات واسعة, واستشرى الشعور بالعجز عن التغيير في ظل زيادة التأثيرات المباشرة للسياسة الإسرائيلية في وضع وشئون السلطة, ورغم ذلك كله سياسياً أو اقتصادياً يبدو إنهاء وجود السلطة الفلسطينية احتمالاً غير مطروح على المدى القريب, والفصائل ومناصريها تبدي الرغبة في بقاء السلطة بشكل أو أخر ولأسباب مختلفة ومتعددة.

ما من شك أن تجربة السلطة الوطنية الكفاحية والمفاوضة شكلت مرحلة مهمة في حياة الشعب الفلسطيني, ولا بد من أخذ العبر من التجربة من خلال التمحيص والتقييم للوصول لنتائج تتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية العادلة.

لا أدعو لحل السلطة لعدة أسباب منها: أنه يسجل لها تحقيق العديد من الانجازات على صعيد حياة الفلسطينين والتى لا يمكن اغفالها, اضافة إلى صعوبة اللجوء لهذا الخيار, أيضاً ايماني بأن السلطة من الممكن أن تحقق الكثير في المرحلة القادمة لو أعيد تقييم التجربة, ولهذا أدعو إلى ضرورة تقييم تجربة السلطة للاستفادة من الاخفاقات التى رافقت مسيرتها, للخروج من المأزق الاقتصادي الحالي والمتمثل في الاضطرابات الدائرة حالياً في جزء مهم وأصيل من أرض الوطن وليست ببعيدة عن الجزء الآخر.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت