سلفيو اليسار وعقدة المرجعية والسلطة المُضاعة

بقلم: ماجد الشيخ


يتماهى يساريون كثر – شيوعيون وغير شيوعيين – مع الرغبة في الاحتفاظ بسلطة استبداد طغيانية ليست لهم، وإنما لحلفاء مفترضين يزعمون أنهم معادون للإمبريالية ومقاومون لها، وممانعون في مواجهة إحلال "سلام" أميركي – إسرائيلي في بلادنا، أو على الأقل إحلال مشاريعهما ومشاريع أضرابهما من أنظمة استبداد طغيانية، ليست بريئة من ارتباطاتها بالامبريالية والتبعية لها، هكذا تصطف زمر العديد من القوى اليسارية مع النظام السوري على هذه القاعدة الذهبية المغلوطة قلبا وقالبا. فلا تراعى أية مبادئ وقيم تربى عليها اليسار الماركسي أو اليسار القومي، وكأن الاحتفاظ بالسلطة هو الحلقة المركزية التي ينبغي الامساك بها مهما كان الثمن، حتى ولو جرى تدمير بلد بأكمله بمعايير فاشية، وقتل الآلاف المؤلفة من أبنائه.

وإذ نؤكد هنا أن الموقف السلبي من النظام السوري، لا يعني موقفا إيجابيا من كل القوى التي تعاديه، لا سيما القوى الدينية على اختلاف أطيافها، ولكن الموقف المبدئي الصحيح أخلاقيا وأدبيا وحداثيا، يتحدد وينبغي أن يتحدد في ضوء موقفنا من سوريا المستقبل، سوريا الديمقراطية التعددية التي يحافظ النظام السياسي المقبل فيها، على نسيجها المجتمعي والسياسي عبر تكريس أنظمة حقوقية مدنية عمادها دسترة قوانين المواطنة، من دون لف أو دوران إزاء مدنية الدولة؛ دولة كل مواطنيها، فلا ينبغي السماح للقوى والتيارات الدينية الإسلاموية بفرض مضامين رجعية متخلفة إزاء شكل الدولة وجوهر النظام المقبل، هذه "الذمية الجديدة" أو "المتجددة" في عصرنا الحديث ليست قمينة بأي اعتبار، فلا فرق هنا بين سلفي وآخر، أو بين سلفيي العصر الحديث، وأولئك الذين عاشوا العصر التأسيسي الأول، حين جرّوا الناس – كل الناس – عبر أنساق من النقل التكفيري، إلى أودية سحيقة من "ايديولوجيا القداسة" لكل نص أنتجوه أو أوّلوه، حتى ما قالوه هم جعل البعض اللاحق منهم نبراسا "لقداسة مستعادة"، حتى صار كل نص قديم يماري في قداسته قداسات أقدم، وحتى قداسات لاحقة، اختلطت، حتى أنها لم تبق شيئا للاجتهاد أو لروح النص أو النصوص الحافة، فصار كل نص لاحق فاسد في اعتقاده حد التكفير، حتى يكف البشر عن التفكير؛ فلا يبق في سوح "الجهاد" غير أولئك الموصوفون بـ "النقل الأمين" عن "سلفهم الأول أو أسلافهم الصالحين".

وهكذا الصورة المقابلة، لدى "يسراويو" التمذهب السياسوي المقابل للتمذهب الطوائفي، وهم يصطفون إلى جانب نظام هو مزيج من الأنظمة الأمنية العسكرية، والأنظمة الطوائفية المتمذهبة، وهي ذاتها الأسباب التي جعلت وتجعل من النظام الإيراني، بالإضافة إلى أسبابه ومصالحه الخاصة وطموحاته القومية، صورة طبق الأصل في الدفاع عن هذا المزيج، باصطفافه إلى جانب النظام السوري، كذلك الأمر في روسيا البوتينية التي وجدت ضالتها في الدفاع عن نظام من هذا القبيل الذي تريده لنفسها في مواجهة شعبها، وإلا بماذا يمكن تبرير كل هذا الدعم الروسي، أو الصيني، لنظام لا يتوانى عن قتل شعبه، بأسلحة يفترض أنها مرصودة لمواجهة "عدو قومي" يحتل أرضا وطنية، ويجرح السيادة التي ينافح أرباب السيادة المحليون والإقليميون والدوليون بالدفاع عنها؟.

الأنكى من ذلك، تلك الهوجة أو هوسات الزعيق التي تتخيل قدرة فائقة للنظام ومحالفيه، على "تنظيف" و"تطهير" الوطن السوري والدولة السورية من شعب أفقده النظام كل إحساس بصلة له بالوطن والدولة، مكرسا قطيعته هو كنظام أمني/عسكري يعادي السياسة كمضمون لجوهر القيادة السياسية للدولة، كما وتكريس انفصاله عن مجتمع ذهب إلى تفتيته حد التصفية الجسدية لقواه ومكوناته، عبر ما أضحى مكشوفا من مجازر ومذابح يومية، تحت شعار "التنظيف" و"التطهير"، وكأن النظام "المنتصر" على شعبه في الغد يمكن له أن يواصل حكمه لهذا الشعب كما حصل في السابق؛ وكأن شيئا لم يحصل، فأي وهم لدى حلفاء النظام الخلّص، كما ولدى أولئك الذين ما رأوا في القبضة الستالينية القمعية والاستبدادية، سوى الوجه الآخر لديكتاتورية البروليتاريا المزعومة، التي يعادلها اليوم تأييد ودعم نظام أو انظمة استبداد طغيانية، رغم كل ارتكاباتها وفظائعها، يُزعم أنها معادية للامبريالية، ومقاومة لها.. وممانعة؟.

اليوم وبكل صراحة، إما أن تكون مع الشعب، ككتلة تاريخية مجتمعية وسياسية منظمة تقدمية وليبرالية حقا، كما هي في ذات الوقت معادية لهيمنة قوى سياسية حاكمة وأخرى خارج السلطة؛ كالقوى الأهلية والدينية التي تحاول في كل الأوقات فرض نوع من هيمنة سلطوية لها تزعم أنها تستمدها من السماء، أو ما تفترض أنه مقدسها الأيديولوجي، أو ما تزعم أنه "حقها الإلهي" في تسيّد السلطة وتبوأ مواقعها الصغرى والكبرى، وصولا إلى حكمها غير الرشيد، حتى وهي ترث حكما استبداديا غير رشيد هو الآخر، لا تنفع معه ادعاءاته ومزاعمه بشأن ذاته أو بشأن تحالفاته مع أنظمة استبداد طغيانية سياسوية أو طوائفية متمذهبة، لها مطامحها القومية في فضاء تحالفاتها الإقليمية الضيقة أو الواسعة مع دول أو قوى غير دولتية، فئوية وحزبية أكثر تمذهبا ومنافحة عن ما تعتقد أنه "مقدسها الأيديولوجي"؛ وكل ذلك تحت مزاعم معاداتها ومقاومتها وممانعتها للمشاريع الإمبريالية والصهيونية؛ أما تلك الرجعية فحدث ولا حرج، حيث التنافس الإقليمي والاصطفافات الإقليمية – الدولية تأخذ مداها الواسع في الصراع المحتدم حول سورية وحول البرنامج النووي الإيراني.

فأي عيب سياسي أو أخلاقي في أن يصطف اليسار أو بعض مدعي اليسارية، إلى جانب المبادئ والقيم التي لم تلوثها المصالح غير المبدئية وغير المتبادلة أصلا؟ وأي تمذهب هذا الذي يجعل يساريا يصطف إلى جانب عصبوية التمذهب الطوائفي، ومن ثم السياسوي في مواجهة تمذهب طوائفي وسياسوي آخر، حيث الاثنان في تشكيلهما العديد من المخاطر القاتلة على مجتمعاتنا سواء بسواء؛ فالاثنان منتوجان معاديان للحداثة والمعاصرة، ومعاديان للديمقراطية والتعددية ولدستور مدني؛ تصان من خلاله كل حقوق المواطنة للمواطنين، الذين لا فضل لأحدهم أو لجماعة منهم على أحد، أو على جماعة أخرى؟.

أي بؤس يتردى في مستنقعاته يسار عربي أو بعض هذا اليسار، غير القادر على تغيير جلده، في الوقت الذي ينبغي أن يصيب التغيير العديد من مضامين أفكاره، في ضوء الواقع المعاش، لا وفق بعض نظريات أثبت الواقع، لا سيما في بلادنا، عدم صحتها، ومنها في شكل ما فكرته عن السلطة، حيث هذه الأخيرة ليست منحة أو منّة من أحد، لا سيما حين نكون أمام انتفاضة شعب وثورته ضد المتسلطين ممن يشابهون المحتلين، الذين جعلوا من السلطة أداتهم الاستعبادية والاستملاكية للهيمنة على شعبهم وعلى مقدراته وكافة شؤونه.

وفي سياق عملية التغيير التاريخية الجارية راهنا، ينبغي توفير ووضع كل الطاقات من أجل قطع الطريق على القوى الرجعية والمتخلفة من تصدر واجهة الانتفاضة وثورة الشعب التواقة إلى تغيير جذري حقيقي بقيادة جذرية حقيقية؛ لا الخضوع لقيادة تتشكل من قوى الثورة المضادة التي استولت على ثمار وإنجازات ما صنعته قوى الثورة الحقيقية من شباب وشابات الربيع العربي، وتلك هي المهمة المركزية لقوى اليسار، لا الوقوع في براثن وتحت تأثير مخدر العداء للامبريالية، ولفظيات الحماسة والممانعة، تلك التي قادت وتقود بعض اليسار لوضع نفسه في خدمة قوى سلطوية قوموية أو إسلاموية، هي بطبيعتها وطبعها، أكثر استبدادا وطغيانية من استبداد وطغيانية تلك الهياكل الستالينية، أو ما كان يوما قرين ديكتاتورية البروليتاريا، وإذ بها ديكتاتورية النخبة الحزبية الضيقة التي أضاعت الحزب والدولة، وها هي قوى النظام السلطوي العربي تضيّع الدولة ومعها الوطن وقضايا هذا الوطن على مذبح استمساكها بالسلطة واستقتالها للاحتفاظ بها.. على حساب الدولة والوطن والمجتمع بالطبع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت