أنتم أيها الحجاج والعمارُ وفد الله وضيوفه ، تقصدون بيته المحرم ، وقد كفل الله لأهل بلده الحرام الأمن والسعة في الأرزاق ، قال تعالى في سورة القصص ممتناً على أهل مكة:{ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) } . ذلك أن الله وضع البيت مباركاً لعبادته وتوحيده ، وقد قال الله تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) } (آل عمران: 96 ، 97 ) ، وعهد سبحانه بتطهيره للعابدين إلى نبيين كريمين فقال : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } ( البقرة: 125 ) ، وهذا إنما هو استجابةٌ من الله سبحانه لدعوة النبي الكريم أبينا إبراهيم الخليل على نبينا محمدٍ وعليه الصلاة والسلام ، قال عز من قائل في سورة البقرة : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}.
ولذلك كان الحج يا عباد الله فريضة على من استطاع إليه سبيلا ، روى ذلك أحمد والنسائي والدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا حديث الإمام أحمد قال : حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ أَبُو دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : خَطَبَنَا يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ قَالَ فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ رضي الله عنه فَقَالَ : فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا أَوْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ " . وفي رواية له أيضاً عند أحمد : ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَبَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَلْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ " . اهـ .
عباد الله أيها المسلمون :لا أفضل بعد الفريضة من الحج ، فقد روى عبد الرزاق قال أخبرنا بكار قال : ( سئل طاووس : الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة ؟ .فقال أين الحل والرحيل والسهر والنصب والطواف بالبيت والصلاة عنده والوقوف بعرفة وجمع ورمي الجمار كأنه يقول الحج ) أهـ .
فلنحج يا عباد الحج المبرور ، فهو المقبول عند الله ، وبر الحاج ما روى عبد الرزاق قال حدثني الأسلمي قال حدثني بن المنكدر قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بر الحاج قال إطعام الطعام وترك الكلام قال الأسلمي وحدثني صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من حج البيت فقضى مناسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه " اهـ .
بشراك أيها الحاج يا من قمت بهذه العبادة على وجهها الأتم:
* بشراك بالغنى والصحة والعافية ، روى الإمام الترمذي واللفظ له والنسائي وابن ماجة وأحمد و عبد الرزاق قال الترمذي : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ " . اهـ .
* وبشراك أيها الحاج بالمغفرة لك ولمن استغفرت له فقد روى عبد الرزاق عن إبراهيم بن يزيد قال أخبرني يوسف بن ماهك أن عمر بن الخطاب خرج فرأى ركبا فقال: ( من الركب ؟ فقال قالوا : حاجين . قال ما أنهزكم غيره ؟ ثلاث مرات . قالوا:لا قال: لو يعلم الركب بمن أناخوا لقرت أعينهم بالفضل بعد المغفرة والذي نفس عمر بيده ما رفعت ناقة خفها ولا وضعته إلا رفع الله له درجة وحط عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة) اهـ .
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه قال : حدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ حَرْبٍ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ،قَالَ: قَالَ عُمَرُ : ( يُغْفَرُ لِلْحَاجِّ ، وَلِمَنَ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ ، بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمِ ، وَصَفَراً ، وَعَشْراً مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ ) اهـ ..
* وبشراك أيها الحاج بإجابة الدعاء وتلبية السؤال ، فقد روى النسائي وابن ماجة واللفظ له قال : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ مَوْلَى بَنِي عَامِرٍ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنْ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ " . اهـ .
* وبشراك أيها الحاج بالجنة ، روى ابن أبي شيبة في المصنف قال : حدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ مِرْدَاسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اللَّيْثِيِّ ، قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو فَحدَّثَنَا ، قَالَ :( مَا مِنْ أَحَدٍ يُهِلُّ إِلاَّ قَالَ اللَّهُ لَهُ : أَبْشِرْ ، فَقَالَ مِرْدَاسُ : يَا أَبَا مُحَمَّدُ ، فَوَ اللَّهِ مَا يُبَشَّرُ اللَّهُ إِلاَّ بِالْجَنَّةِ ، قَالَ : مَنْ أَنْتَ يَا ابْنَ أَخِي ؟ قَالَ : أَنَا مِرْدَاسُ ، قَالَ : قد كَانَ خِيَارُنَا يَتَتَابَعُونَ عَلَى ذَلِكَ ). اهـ .
وروى عبد الرزاق في المصنف عن جعفر بن سليمان قال حدثني محمد بن جحادة عن طلحة اليامي قال سمعته يقول : ( كنا نتحدث أنه من ختم له بإحدى ثلاث إما قال وجبت له الجنة وإما قال برئ من النار من صام شهر رمضان فإذا انقضى الشهر مات ومن خرج حاجا فإذا قدم من حجته مات ومن خرج معتمرا فإذا قدم من عمرته مات ) اهـ ..
عباد الله : هذا موسم الطاعة في أشهر الحج ومن أقبلَ على الله قُبِل ، فلنقبل على الله بالإقبال على عباده ، ولنصلح ذات بيننا ، ولنجمع كلمتنا ، ولنوحد صفنا ، طائعين لله فبه سبحانه صلاح الأحوال ، وقبول الأعمال ، فلنرفع أكف الضراعة بالابتهال ، اللهم فرج عنا الكروب يا علام الغيوب ، وارفع عظيم البلايا بجليل العطايا ، اللهم و اغفر لنا الذنوب والعيوب والآثام و الخطايا ، وأكرمنا لتدخلنا الجنة دار السلام ، أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام .
أيها المسلمون :الحج جهادٌ لا شوكة فيه ، وفي المعجم الكبير للطبراني ومصنف عبد الرزاق وسنن سعيد بن منصور واللفظ للطبراني قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، ثنا جَعْفَرُ بن حُمَيْدٍ، ثنا الْوَلِيدُ بن أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بن عُمَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بن أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ، قَالَتْ: ( جَاءَ رَجُلٌ اِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ:أَلا أَدُلُّكَ عَلَى جِهَادٍ لا شَوْكَةَ فِيهِ؟قُلْتُ: بَلَى، قَالَ:حَجٌّ الْبَيْتِ ) اهـ .
ولذلك فإن من استطاع أن يفد إلى الله في كل أربعة أعوام مرة فلم يفعل لمحروم ، وفي الأوسط للطبراني من طريق عبد الرزاق واللفظ له قال : اخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن العلاء بن المسيب عن أبيه أو عن رجل عن أبي سعيد الخدري قال : ( يقول الرب تبارك وتعالى إن عبدا وسعت عليه الرزق فلم يفد إلي في كل أربعة أعوام لمحروم ) اهـ .
فأجر الحاج عظيم روى عبد الرزاق عن بن مجاهد عن أبيه عن ابن عمر قال : جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدهما من الأنصار وآلاخر من ثقيف فسبقه الأنصاري فقال النبي صلى الله عليه و سلم للثقفي : " يا أخا ثقيف سبقك الأنصاري فقال الأنصاري أنا أبدئه يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا أخا ثقيف سل عن حاجتك وإن شئت أنا أخبرتك بما جئت تسأل عنه قال فذاك أعجب إلي أن تفعل قال فإنك جئت تسأل عن صلاتك وعن ركوعك وعن سجودك وعن صيامك وتقول ماذا لي فيه قال إي والذي بعثك بالحق قال فصل أول الليل وآخره ونم وسطه قال فإن صليت وسطه فأنت إذا قال فإذا قمت إلى الصلاة فركعت فضع يديك على ركبتيك وفرج بين أصابعك ثم ارفع رأسك حتى يرجع كل عضو إلى مفصله وإذا سجدت فأمكن جبهتك من الأرض قال وصم الليالي البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ثم أقبل على الأنصاري فقال سل عن حاجتك وإن شئت أخبرتك قال فذاك أعجب إلي قال فإنك جئت تسألني عن خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فتقول ماذا لي فيه وجئت تسأل عن وقوفك بعرفة وتقول ماذا لي فيه وعن رميك الجمار وتقول ماذا لي فيه قال إي والذي بعثك بالحق قال فأما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطأها راحلتك يكتب الله لك حسنة ويمحو عنك سيئة وأما وقوفك بعرفة فإن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول هؤلاء عبادي جاؤوا شعثا غبرا من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل ايام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبا غسلها الله عنك وأما رميك الجمار فإنه مذخور لك وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك "اهـ ؛ فالحمد لله على خيره العميم ، وفضله الجسيم.
بقلم/الشــيخ ياســين الأســطل
الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
بالمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت