الحكومات كالأفراد تمر بمرحلة مراهقة، تصحبها مغامرات غير محسوبة، لكنها تؤوب إلى رشدها في يوم من الأيام، حينما تستحكم الحلقات، وتشتد عليها وطأة الأزمات، ليس هذا فحسب، بل نجد داخل الحزب أو الفصيل الواحد، والمجتمع الصغير حالات استبداد، أو إقصاء، أو تفرّد بالقرار، واستئثار بمقدرات الحزب ، لكنها سرعان ما تتلاشى هذه الظواهر حينما يكون العقل والضمير والمصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.
ويبقى التغيير - أي تغيير في أنظمة الحكم أو الأحزاب يثير الكثير من المخاوف والهواجس بل وقد يخلق هموما وتحديات يصعب تجاوزها دون أن نكسر حاجز الخوف بداخلنا. فالموروث القديم والتقاليد المعتادة والأساليب المجربة، بغض النظر عن مستوى صحتها أو فعاليتها أو حتى تكيفها مع الواقع المعاصر المتجدد، قد تخلق عبر الزمن حاجزا يقف ليس فقط دون اقتحام أي جديد، ولكن أحيانا دون حتى القدرة على تجريب ما هو مختلف.
وبالنسبة لنا كفلسطينيين مازالت المخاوف والهواجس تعشعش في عقولنا وتتحكم في الكثير من تصرفاتنا، فعقدة الخوف من المستقبل، بل والمجهول برمته تشكل هاجساً دائماً لنا بغض النظر عما إذا كنا مواطنين أم لاجئين، مقيمين أم مهجرين، أغنياء أو فقراء، وطنيين أو أشباه ، فإذا قدر لنا أن نضحك قليلاً في سنوات الحزن الطويلة نتوجس خشية مما هو آت، وإذا طل علينا الفرح للحظات قصيرة، تدق قلوبنا خوفا ووجلاً... والأهم من ذلك أن هذا الخوف بتحكم في مصائرنا وسلوكنا، فبالكاد نفكر في ما قد يدخل الترف والفرح إلى بيوتنا، ويشعرنا أننا قوم مثل عباد الله الآخرين.
لماذا لا ننظر إلى المستقبل بقدر ما نعود إلى الوراء؟ ألا يمكن أن تُؤسس العقلية الفلسطينية وتُبنى على النظر إلى الأمام؟ لنترك الانقسام والخلافات السياسية جانبا، ولتفكر في ما قد يفرحنا ويفرح أطفالنا....على سبيل المثال ماذا لو استفادت الحكومة في غزة من مساحة ارض سجن السرايا سابقا اقتصاديا وسياسيا وسياحيا واجتماعيا بأن تحولها إلى منتزه كبير يشيع الخضرة والجمال في مدينتنا وبلادنا فيكون مقصداً للكبار والصغار بل يكون المنافس الفلسطيني لحديقة الهايد بارك اللندنية الشهيرة ؟ ومن الممكن جدا طرح الساحة كمشروع تجارى تتنافس عليه شركات القطاع الخاص مما ينشط العجلة الاقتصادية، ولا يمنع من تدخل الواسطة ليفوز به أحد المتنفعين وفق معيار المنافسة الشريفة!
وإنعاشا للاقتصاد الفلسطيني في محافظات غزة وتشجيعا للشباب وترويحا للرواد، تخصص أكشاك لبيع العصائر والمعجنات وغيرها من إبداعات الأيادي الشابة، بأسعار رمزية. ويمكن جدا تخصيص أكشاك للتبرعات والجمعيات الخيرية وتوزيع المنشورات وكتب الأدعية والرقى الشرعية ترسيخا لثوابت وعقيدة الأمة.
ولتنويع الخدمات، لا مانع من توفير خدمات أخرى مثل غسل ومواقف لذوي الاحتياجات، وأماكن للهو الأطفال، ولا مانع أن تتحول إلى مكان لحرية التعبير عن الآراء السياسية على طريقة الهايد بارك ، ومن يدري لعلها تتحول مع مرور السنوات إلى هايد بارك الإرادة العربية، لا سيما بعد سيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد الحكم بالطرق الحضارية والديمقراطية في بعض الدول.. والبقية في الطريق.
وإذا كانت هذه الفكرة أساساً للانطلاق نحو تشجيع الترفيه والنشاط السياحي الداخلي ووسيلة لمنع الاحتقان وعدم كبت الحريات العامة, فلا مانع من أن يحول سجن السرايا القديم بعد إعادة ترميمه إلى متحف الذي يتوسط الحديقة الجديدة، وتعرض فيه نماذج التعذيب التي كانت تمارسها سلطات الاحتلال ضد أبناء شعبنا , وبعض الأشغال اليدوية من نتاج عمل أسرانا البواسل في سجون الاحتلال.
وعود على بدء ليس ضروريا لمرتاد الساحة أن تكون له مطالب أو مساع محددة سوى الجلوس بطمأنينة والانفتاح والتسامح مع الآخرين.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
د.احمد إبراهيم حماد
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت