أمهات المعارك الكروية

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


جرت يوم أمس السابع من شهر أكتوبر الجاري على ميادين كرة القدم الآوروبية أمهات المعارك الكروية، في اسبانيا التي تترنح اقتصادياً وتتململ سياسياً بمطالبة إقليم كتالونيا بالإنفصال (برشلونة، ريال مدريد)، وفي ايطاليا التي تتهاوى اقتصادياً (ميلان ، إنتر ميلان) وفي فرنسا التي تعاني من البطالة (مرسيليا، باريس سان جرمان) وكذلك في البرتغال الفقيرة قبل الأزمة الإقتصادية العالمية ولا يحضرني أسماء طرفي المعركة الكبرى هناك، وانشدت اليها أنظار الملايين من العالم، والمشاهدين في المقاهي والبيوت يقلبون القنوات ليستطلعوا أخبار ونتائج المعارك المحتدمة بين الجيوش الكروية، ويتنازعون فيما بينهم لمشاهدة المعركة التي يفضلها كل واحد منهم داخل المقاهي والبيوت، واحمرت الوجوه وثارت الأعصاب واحتدم النقاش بين المشجعين كل يدافع عن فريقه، ووصل بها الحد الى الإشتباك بالأيدي داخل الأسرة الواحدة، والإشتباكات داخل المقاهي. والكثير من الناس حمل أمتعته وشد الرحال الى ميدان المعركة التي يهواها عابراً للقارات ومستقطعاً أجور وتكاليف الرحلة من مصروف عائلته ومن التزاماته الضرورية في الحياة. وطغت أخبار هذه المعارك الكروية على أخبار معارك الحرية والفقر والجوع والغلاء التي يعاني منها بني الإنسان في جميع أنحاء الأرض. واشتبك بنو الإنسان فيما بينهم في معارك جانبية على جنبات ميادين أمهات المعارك. وفي المقاهي وفي البيوت ناسين همومهم وافتقارهم الى الحياة الحرة الكريمة التي شرعها الخالق لهم.

مسكين أنت يا بني آدم، لقد وصل بك الأمر الى الدخول في معارك هامشية لا تمت الى مصالحك بشيء، لا بل تمس مصالحك وحقوقك في الحياة وتنتقص منها، وتهدرها، ويحدث ذلك لك بيدك أنت، فقد أوصلت نفسك الى هذا الدرك الهابط من مستوى الحياة، وتسببت في أزمتك الإقتصادية الشاملة التي تعاني منها، وأدخلت نفسك في نفق الفقر والجوع والسفاهة والمهانة.

الرياضة والعناية بالجسم والترفيه عن القلوب مطلب شرعي، والإستمتاع بالحياة والتنعم بنعمها وجمالياتها واجب شرعي لكي تنسى أنك ميت لا محالة مهما على شأنك ومهما ارتفعت قيمتك المادية والمعنوية، فهذا الإستمتاع ينسيك الموت ليجعلك قادراً على الحياة، فلا تجعله مناسبة للتنغيص عليك بتعصبك الأعمى لفريقك الذي لا يأبه بك. ومهما جمع فريقك المفضل من كؤوس ونياشين فستعود الفائدة عليه لا عليك.

حينما دخلت التجارة في الرياضة أفسدتها وحولتها الى استثمار عقيم، تماماً كما دخلت بالصحة والتعليم، يقوم هذا الإستثمار على انتزاع المال من عامة الناس البسطاء الفقراء ليوضع في جيوب قلة من الناس، فريع مباريات كرة القدم يتأتى من جيوب الشعوب وعامة الناس دون عملية إقتصادية تنفع الصالح العام. لم تفكر أيها الإنسان ولم تحسب القيمة المالية للجيوش المحاربة داخل الميدان والتي أصبحت تخوض المعارك مقابل أجر مادي يصل الى مليون يورو بالأسبوع لكل جندي من جنود المعركة سواء كان محارباً أو احتياطياً أو مدرباً. هذا عداك عن دخل النادي الكروي ودخل الإتحاد الآوروبي لكرة القدم الذي أصبح امبراطورية رأسمالية تضاهي في قوتها قوة الإمبراطورية العسكرية الكبرى في العالم الولايات المتحدة الأمريكية، وتملك من الصلاحيات ما تستطيع فرضه بقوة النفوذ المادي ويصب في صالحها وصالح القائمين عليها.

كانت الرياضة جميلة وممتعة قبل أن يدخلها الإستثمارعندما كانت هواية يمارسها الناس، ويستمتع بها المواطن المتفرج في بيته أو في المقهى أو في الميدان دون تكلفة باهظة أو حتى سماعها بالمذياع. وكانت المباديء الإنسانية تظهر جلية في الروح الكفاحية للمحاربين من أجل الرفعة المعنوية لقيمة الشرف أو الكيان الذي يحارب من أجله الرياضي. كانت تسودها المباديء والقيم والروح الرياضية العالية السامية المترفعة عن النفع المادي الباهظ.

أما اليوم فقد أصبحت الرياضة صناعة استهلاكية تنعكس نتائجها السلبية كاملة على الإنسان العادي الكادح في هذه الحياة، تسلب ما في جيبه من الدراهم القليلة، فتجمع من ملايين الجيوب أموالاً طائلة لتصب في قنوات أصحاب رؤوس الأموال الجشعين المحتكرين الذين تقوم تجارتهم على المبدأ الرأسمالي الحر الذي يجتاح العالم اليوم بعد سيطرة القطب الأوحد على الإقتصاد العالمي. وهذا المبدأ يسود اليوم بعد تسويقه بقوة السلاح والمال والنفوذ في تحالف بين القوة العسكرية والقوة المالية بدون حدود أو قيود على ممارسته في ميادين الإقتصاد، مستخدماً في تضخيم اقتصاده الأساليب المشروعة وغير المشروعة لتنمية مكتسباته المادية الشخصية على حساب المصالح الوطنية العليا، فاختفى الإقتصاد الموجه الذي توجهه السلطة الوطنية الحاكمة وظهر الإقتصاد الحر الذي يعاني من ويلاته بني البشر اليوم والناتج عن تحالف السلطة الحاكمة في الوطن مع السلطة الإقتصادية المتنفذة فيه وذلك في معظم الأوطان ما عدا الصين التي أبقت على توجيه أقتصادها والتي تعتبر النموذج الإقتصادي الأول في العالم اليوم وتسعى القوى المنافسة لهدمه كما هدمت من قبله كل الإقتصادات الموجهه لصالح مبدئها الإقتصادي الرأسمالي الحر.

في رياضة كرة القدم الماضية الجميلة كان الولاء للنادي أو الكيان مستمراً لا يتغير، فتجد الرياضي يلبس قميص ناديه ويرتدي شعاره الى أن يعتزل، ويظل مشجعاً وفياً له لا يحيد عن مبدئه الذي اقتنع به حتى الممات، وفي رياضة اليوم تجد اللاعب يبدل قميصه وشعاره بين العام والعام عابراً للقارات باحثاً عمن يدفع قيمة أعلى فتجده يدافع عن كيان رياضي هذا العام ويهاجمه في العام الذي يليه. فانتهى الولاء والوفاء وغابت القيم المعنوية لصالح القيم المادية البحتة. واللاعب الذي يظل وفياً لناديه ولا يغير شعاره يلفظه النادي عندما يقترب من نهاية عمره الكروي كما حصل مع اللاعب ديلبيرو في نادي اليوفي ومن قبله راؤول كونزالس في نادي ريال مدريد. تماماً كما هو منطبق في عالم السياسة الذي يقوم على المصالح ولا يمت للمباديء بصلة. وتنتهي صلاحية اللاعب في نظر ناديه وكيانه الرياضي بانتهاء المصلحة منه.
في الخاتمة نقول لمشجعي الأندية الكروية، لا تختلفوا فيما بينكم على الفرق الرياضية، فاللاعبون في الملعب يتصافحون بعد نهاية المباراة، ويسهرون سوياً في أوقات الفراغ يبعثرون ما سلبوا منكم من مال، ويتنقلون بين الأندية على مبدأ الأواني المستطرقة باحثين عن الأجر الأعلى، فلا وفاء أو جاذبية نحو النادي أو الكيان الرياضي، وأصبح الوفاء والجذب للمصلحة الشخصية البحتة، فابحث أيها المشجع أيها الكادح في هذه الحياة بحثاً عن لقمة العيش عن مصلحتك أنت لا عن مصالح غيرك ممن لا يأبوه بك وبوجودك في الملعب. حيث أصبحت ميزانية ودخل النادي الكروي تضاهي وتزيد عن ميزانية بعض الدول الفقيرة، وأصبح دخل النجم الكروي يزيد عن الدخل القومي لكيان وطني بأكمله وتفاوتت المستويات المادية بين البشر وانتشر الحقد والحسد والتفرقة.

مجنون أنت أيها الإنسان، لقد أوصلت نفسك الى هذا الحد من السفه. فلو فكرت قليلاً لشاهدت كرة القدم للإستمتاع فقط وبأرخص الأثمان دون تحيز لفريق ضد الآخر، وبعيداً عن التعصب المقيت الذي يثير الفتن داخل البيت الواحد. فعندما تفرح وتصفق للهدف وتتنازع مع غيرك تعود عليك ردة فعلك غير المتزنة بالضرر وبالمقابل تعود على اللاعب الذي سجل الهدف بالنفع المالي وتنعكس على النادي المنتصر في المعركة لتربو أموالهم.

بقليل من التفكير الواعي والمنطقي تستطيع أن تعيد المياه لمجاريها والرياضة لهدفها السامي بعدم التعصب وعدم المجازفة بمداخليك الضئيلة لتصب في مصلحة الغير دون نفع يخصك وبدون نفع يعود على العامة من الناس فتجبر الرياضة على العودة لسابق عهدها لتسعيد حقوقك بالإستمتاع المباح.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت