يبدو أن فشل النخبة الفلسطينية في تحقيق أي من الأهداف المُسطرة والتي عاهدت الجماهير على تحقيقها من خلال التسوية أو المقاومة المسلحة،أدى لحالة من التخبط والارتجالية في العمل السياسي ،بحيث باتت الساحة الفلسطينية حقل تجارب لمشاريع وأفكار وأيديولوجيات حول مفهوم الدولة الفلسطينية وحدودها،ففيما حركة حماس تصنع دولة غزة على مساحة 360 كلم (1,5% من مساحة فلسطين) وفيما الرئيس أبو مازن يحارب في الأمم المتحدة لتثبيت دولة فلسطين في الضفة والقطاع كدولة غير عضو ، ترتفع أصوات داخل منظمة التحرير وخصوصا داخل فتح لتستحضر وتعيد طرح فكرة الدولة ثنائية القومية ،وهي فكرة تم طرحها وتبنيها داخل حركة فتح نهاية الستينيات من القرن الماضي،ولكن هذه المرة في ظل ظروف مغايرة تماما لمرحلة الستينيات وفي ظل إبهام في تعريف ماهية الدولة ثنائية القومية .
إن كان الكُتاب والمثقفون القائلون بفلسطين ثنائية القومية ينطلقون من منطلقات وطنية شمولية ترمي لتجاوز الانقسام والتسوية وكل إفرازات المرحلة السابقة التي أدت لخروج القضية الوطنية عن مسارها كحركة تحرر وطني وتحويلها لسوق نخاسة لبيع الوطن ، فإن طرح الفكرة من طرف سياسيين من نفس النخبة الفاشلة والمأزومة يثير لدينا تخوفات مما يرومه هؤلاء من طرح الفكرة ،وهل الذين فشلوا خلال أربعة عقود يمكنهم أن يخرجوا من ثوبهم ويستنهضوا الحالة الوطنية من خلال هدف الدولة ثنائية القومية؟.
عندما طرحت حركة فتح نهاية الستينيات فكرة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل تراب فلسطين التاريخية وتم تبنيها رسميا ضمن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني عام 1971، اعتقدت حركة فتح أن الفكرة ستجد استحسانا من أطراف يهودية عالمية وأطراف دولية لان هذه الدولة ستمنح اليهود المقيمين في فلسطين نفس الحقوق التي هي للعرب الفلسطينيين حيث قالت الحركة:(نحن نقاتل في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم ... مسلمين ومسيحيين ويهود في مجتمع ديمقراطي تقدمي، ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية ). وتأكيدا من فتح على إنسانية الهدف استطرد نفس البيان قائلا :(إن ثورتنا الفلسطينية لتفتح قلبها وفكرها لكل بني الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر الديمقراطي وان يناضلوا في سبيله بصرف النظر عن اللون أو الدين أو العرق).
وفي الدورة السادسة للمجلس الوطني الفلسطيني سبتمبر 1969 قدمت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مذكرة للمجلس حددت فيها أن هدف النضال الفلسطيني : (إقامة دولة فلسطين الموحدة بعد إزالة الكيان الإسرائيلي وتقضي على التمييز العرقي والعنصري، وتعتمد على حل ديمقراطي للتناحر القائم يستند إلى تعايش الشعبين العربي واليهودي) ،نفس الموقف اتخذته الجبهة الشعبية التي أكدت على المضمون الأيديولوجي لفلسطين الغد التي ستحكمها المبادئ الماركسية اللينينية التي لا خيار عنها في مرحلة التحرير والنضال وفي مرحلة ما بعد التحرير: (فلسطين المحررة ستكون جزءا من مجتمع عربي ثوري جديد... وأن اليهود في فلسطين بعد التحرر سيمارسون شأنهم شأن غيرهم كافة حقوقهم الديمقراطية كمواطنين في مجتمع ديمقراطي اشتراكي).
كانت الأحزاب القومية من أشد المعارضين لشعار فلسطين الديمقراطية من منطلق أن فلسطين الديمقراطية وبالتعريفات التي أعطيت لها يتناقض مع عروبة فلسطين ومع القومية والوحدة العربية .فرأت طلائع حرب التحرير الشعبية (الصاعقة)، بأنه بالرغم من أن البحث في هذا الموضوع سابق لأوانه، إلا أنها تبدي تحفظها تجاه الدولة الفلسطينية الديمقراطية لان : )مثل هذه الدولة تتنافى مع الوحدة العربية التي تؤمن بها، فهي تسعى إلى إقامة دولة عربية واحدة لا حواجز فيها ولا حدود تفصل بين أقطارها، وكل حل للقضية الفلسطينية لا يتفق مع هذا المنطق يبقى حلا مرفوضا من الناحية الفكرية بالنسبة للطلائع). أما موقف جبهة التحرير العربية فقد اتسم برفض صارم لشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية، وقام هذا الرفض على خلفية قومية وانطلاقا من تحليل موضوعي لطبيعة المجتمع الصهيوني، واستحالة نجاح أي مراهنة على نبذ اليهود لصهيونيتهم وهو الشرط اللازم للعيش في فلسطين المحررة معهم، وهي من منطلق رؤيتها للصهيونية كنفي لوجود الشعب الفلسطيني، ومن منطلق أن المجتمع الصهيوني القائم على الاغتصاب والعدوان هو مجتمع مضطهِد وظالم بمجموعة، تؤكد استحالة العيش مع هذا المجتمع، فالنقيضان لا يمكن أن تجمعهم أرضية مشتركة أو قيم واحدة،وتنهي جبهة التحرير العربية تحليلها الرافض لشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية بالقول إن هذا المشروع ــ الدولة الديمقراطية ــ يمثل احتياطيا للحركة الصهيونية تلجا إليه فيما لو أعدمت الوسائل الكفيلة بوقف الكفاح المسلح والمقاومة العربية وهو لن يكون في أحسن الأحوال أكثر من تسوية تراعي فيها المصالح الاستعمارية والصهيونية، على حساب حركة الثورة العربية.
مع عدم تجاهلنا لأهمية العامل الإنساني في تبني هدف "فلسطين الديمقراطية" وعقلانية هذا العامل في إطار التعامل مع القضية دوليا، إلا أننا نعتقد أن الدافع الرئيسي وراء تبني هذا الشعار والهدف آنذاك هو تلمس بعض العناصر القيادية في م.ت.ف. وفي فتح تحديدا التي كان لها نصيب الأسد في ممارسة الكفاح المسلح وفي التعامل مع الأنظمة العربية والتصادم معها ،تلمسهم الفجوة الكبيرة ما بين إمكانيات الثورة والشعب الفلسطيني من جهة و تحرير فلسطين عسكريا وإرجاع اليهود من حيث أتوا من جهة أخري ، كان تبني هدف «فلسطين الديمقراطية» منطلق سياسة التسوية بالرغم من أن الثورة الفلسطينية والحالة العربية كانتا أفضل بألف مما هي عليه اليوم ،
بالرغم من التنازل المُتضمن في هدف فلسطين الديمقراطية آنذاك، فإنه لم يجد إلا كل رد ورفض من الكيان الصهيوني، الذي قام على عقيدة شعب الله المختار، و عمل ويعمل على إقامة دولة يهودية نقية خالصة.فهل ستقبل إسرائيل اليوم ما رفضته سابقا؟.
اليوم وبعد فشل تسوية أوسلو بما يتضمنه من فرص حل الدولتين ،وبعد الانقسام ووصول المشروع الوطني التحرري بشقيه المقاوم والسلمي لطريق مسدود يعود الحديث عن الدولة الواحدة أو الدولة ثنائية القومية.الملفت للانتباه أن طرح الدولة الواحدة جاء من كُتاب ومثقفين ولكن أيضا من طرف قيادات في حركة فتح ومنظمة التحرير منهم السيد أحمد قريع كبير المفاوضين سابقا وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير حاليا ،الذي تحدث عن الموضوع لأول مرة في يناير 2005 عندما كان رئيسا للوزراء وعندما كانت المفاوضات تمر بمأزق.وكرره بعد ذلك في أغسطس 2008 وأخيرا في 13سبتمبر الماضي 2012 حيث قال في تصريح له خلال لقاء صحفيين صهاينة بمناسبة مضي تسعة عشر عاماً على توقيع اتفاق أوسلو ونشرت الإذاعة العبرية جزءًا منه : "إن الفلسطينيين مستعدون لخوض مباحثات مع إسرائيل حول إنشاء دولة ثنائية القومية".وكان أبو علاء قريع وصف،في مقال له في شهر أبريل من نفس العام حل الدولتين بأنه "أقرب ما يكون إلى حرث في البحر، إن لم أقل ملهاة سياسية طويلة".
قد يقول قائل إن المراد من الدعوة للدولة ثنائية القومية من طرف مثقفين ووطنيين فلسطينيين تبليغ رسالة احتجاج على تعثر المفاوضات و شكلا من التهديد للإسرائيليين بتخويفهم من الخطر الديمغرافي أو قطع الطريق على يهودية الدولة الخ ونحن نتفهم دوافعهم ،إلا أن صدور هذه التصريحات من قيادي في منظمة التحرير ينبني عليها تداعيات خطيرة ويعطي مؤشرات تستدعي منا التوقف عندها وعند فكرة الدولة الواحدة بشكل عام:
1- لا يجوز التلاعب بالحقوق الفلسطينية وبهدف النضال الوطني بحيث يتم الانتقال من هدف لآخر كلما تعثرت المفاوضات أو فشلت النخبة السياسية في تحقيق الهدف الوطني،فالوضع الطبيعي والعقلاني أن يتم تغيير القيادة أو تنحيها عن مواقعها عندما تفشل وليس تغيير الأهداف مع بقاء نفس القيادات.
2- طرح فكرة الدولة الواحدة اليوم على لسان قيادي فتحاوي كبير يُضعف تحرك الرئيس أبو مازن في الأمم المتحدة ويكشف غياب رؤية مشتركة عند القيادة الفلسطينية.
3- طرح الفكرة اليوم وصيرورتها موضوعا للحديث والجدل عند السياسيين والمثقفين الفلسطينيين يعني إسقاط هدف الدولة المستقلة في الضفة وغزة أو تجاوز المشروع الوطني الفلسطيني الذي وُضِعت أسسه في دورة المجلس الوطني في الجزائر 1988،فهل النخب السياسية والمجتمع بكامله مهيئ لخوض معركة الدولة الواحدة الآن؟.
4- لقد فشلت الفكرة عندما كان الفكر السائد سواء في إسرائيل أو عند الفلسطينيين فكرا يساريا واشتراكيا ومتفتحا،فهل للفكرة نصيب من النجاح اليوم في ظل فكر ديني توراتي يسيطر على المؤسسة الرسمية الإسرائيلية ويعم إسرائيل التي تسعى لتكون دولة يهودية خالصة،وفي ظل فكر ديني يتزايد انتشارا عند الفلسطينيين وفي العالم العربي ؟.وكيف ستقبل إسرائيل التعايش مع خمسة ملايين فلسطيني وهي غير قادرة على التعايش والتكيف مع حوالي مليون فلسطيني متواجدين فيها منذ أربعة وستين عاما؟.
5- إن خطورة طرح الفكرة اليوم تكمن في تجاوز كل قرارات الشرعية الدولية والعربية، من قرار التقسيم حتى المبادرة العربية وحل الدولتين ،والتأسيس لشرعية ومرجعية جديدة لا نعتقد أن الوضع الدولي والعربي والفلسطيني مستعد وقادر على تأسيسها.
6- لا شك أنه في حالة فشل كل خيارات التسوية ليس أمام الفلسطينيين أصحاب الأرض والحق إلا التشبث بأرضهم ولكن فرض وضع الدولة ثنائية القومية يحتاج لنضال لا يقل عن النضال من اجل الدولة المستقلة وهذا يتطلب وجود استراتيجيه فلسطينية واحدة حول هذا الهدف ولا يبدو في الواقع إمكانية وجود هذه الإستراتيجية.
7- إن من يفكرون بحل الدولة الواحدة إن فشلت كل الخيارات الأخرى عليهم أن يعلموا بان أول خطوة بهذا الاتجاه هو حل السلطة الفلسطينية بحكومتيها في غزة والضفة لان السلطة جزء من المشروع الوطني،مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة،ويتطلب أيضا عودة احتلال قطاع غزة حتى يكون العامل الديمغرافي مؤثرا.
وأخيرا نقول إن الوصول إلى الدولة الديمقراطية الواحدة يحتاج إما لحرب شاملة تُهزم فيها إسرائيل ويفرض الفلسطينيون رؤيتهم وإرادتهم ،أو سلام شامل وتفاهم استراتيجي بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبين المسلمين واليهود يسمح بقيام هذه الدولة ،وضمن الظروف الحالية لا نرى أن أي من الحالتين متوفرة أو قريبة التوفر ،مما يجعل الدولة الواحدة فكرة طوباوية حاليا .
ما نخشاه من وراء طرح فكرة الدولة الواحدة في ظل حالة الضعف الفلسطيني والفصل ما بين غزة والضفة واستمرار تآكل السلطة الفلسطينية في الضفة واستمرار الاستيطان وتزايد عدد المستوطنيين واعتراف المفاوض الفلسطيني بالتكتلات الاستيطانية الكبرى الخ ،أن تقتصر فكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية على الضفة الغربية فقط،وهذا أمر حذرنا منه منذ سنوات ونعتقد بأن مراكز تفكير استراتيجي إسرائيلية تفكر اليوم بهذا الشكل،وما نخشاه أكثر وجود أطراف فلسطينية مستعدة للتعامل مع هذا الحل للضفة ،ونتمنى ألا تكون تصريحات أبو علاء تصب في هذا الاتجاه.
10/10/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت