عصام يونس.. من حقوقي حازم إلى فنان ساحر

بقلم: أميمه العبادلة

"لا جمال يفوق ما تنتجه الطبيعة"

عصام يونس.. من حقوقي حازم إلى فنان ساحر

لطالما كانت نخبة العلماء، والمشتغلين بالسياسة، وأهل الاختصاص في القانون، على الرغم من كل ما يبذلونه في مجالات خدمة الإنسانية والحريات والارتقاء والتنمية؛ بصورة نمطية مألوفة لدينا تتسم بكثير من الجدية ووفرة في الجمود.. وكأنهم كائنات آلية مبرمجة على العطاء الروتيني دون ملامح جلية لمشاعر عميقة ومرهفة..

ربما يعتبره البعض صِنفاً من "بريستيج" اجتماعي فاخر لا يجوز كسر حديته، لأغراض قناعات نفسيه بحته ما أنزل الله بها من سلطان سوى أهواء بشرية تعلو وتهبط دون مرونة أو جدوى.. لكنه يتعارض من كينونة الإنسان وميله للبساطة والفطرة والتوحد مع الطبيعة والجمال..


لعل الصورة السابقة مألوفة إلى حد ما، لكن اللامألوف يكمن في كسر جبروت هذه الصورة الجافة بإبداء لين مثير، بعد امتزاج المشاعر فيه بسمو الفن وعميق أصالته..


وليكون الحديث أكثر وضوحاً دعونا نرسو بعض الوقت في غزة، تلك المدينة المحاصرة التي يحسبها كثير من الخلق قطعة منسية، لا حياة طبيعية فيها.. بينما في واقع الأمر فإن كل ما فيها يقتنص الثواني ليصرخ أنا أضج بالحياة رغماً عن الحياة ذاتها..

هنا وقرب البحر يبرز لنا معرض لوحات استوحى اسمه من رسمه: "لا جمال يفوق ما تنتجه الطبيعة".. إنه معرض فريد من نوعه لجدة خاماته.. فجميع لوحاته العشرين مرسومة ومطلية بقصاصات من قش سيقان القمح الذهبية..

ومع ذلك فنجم المعرض الحقيقي هنا لا اللوحات الفريدة بل صاحبها الذي تخلص من عباءة عشرين عاماً في أروقة النشاط القانوني، والمرافعات الجادة، والمقالات السياسية الرصينة، وشعلة حقوق الإنسان التي لطالما كانت همه الأول، وارتدى زرقة السماء في عينيه المتوقدتين حياة، فغازل بذلك أبصارنا وأرواحنا وذوقنا بكوكتيل فني لا مثيل له، وأنار عالم الإبداع بعشرين لوحة طبيعية 100%..

فاللوحة الواحدة بها ألف معنى، ما بين روعة الطبيعة، والحفاظ على البيئة، وتصوير الحياة، ودقة الصناعة، وتقدير الإنسانية، مغلفاً كل هذا بحرفية ساحرة وبهالة قصوى من الحب..

وعلى الرغم من أن عصام يونس يشغل منصب مدير لمركز الميزان لحقوق الإنسان والذي ينصب نشاطه في تعزيز أسس الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني ونظامه السياسي وتعزيز المشاركة السياسية للمواطنين، والضغط نحو تشكيل حكومات صالحة تحترم حقوق الإنسان، وتوعية المواطنين بحقوق الإنسان الفردية والجماعية بما في ذلك الحق في تقرير المصير والعمل على تحقيقها عبر استخدام قنوات القانون الدولي..

إلا أن كل ذلك لم يمنع يونس من ممارسة هوايته الفنية المميزة هذه.. فهو يراها تساعده على تفريغ طاقته السلبية والضغط والتوتر والإجهاد الذي قد يسببه العمل والهم الإنساني المتواصل الذي تبناه من بداية شبابه.. حيث إن طبيعة القش المشاكسة والهشة تتطلب طول بال وصبر ودقة عالية في رسمه ونظمه وتوليف أليافه بتموجات تظهر جمال اللوحة وعمقها.. الأمر الذي قد يستنزف من العمر مابين شهرين إلى سنتين لتكون في النهاية عروساً متألقة يباهي بها الفنان بين الزائرين في معرضه..

استرقت السمع فعلمت أن يونس ما كان يفكر يوماً بالمعرض، واكتفى بلوحاته نجوما تزين منزله، لكن إلحاح متواصل من أصدقاءه دفعه ليبرزها للعلن، ويساعدنا في تأمل روح الإنسان الفتية التي لم ولن ينال منها أي ظرف مهما كان قاسياً..

في الحقيقة لا أعرف يونس شخصياً، ولم أمكث في المعرض طويلاً.. فقد سرقت من الزمن نصف ساعة لأرى ما الجديد.. فكان الجديد يحمل في كل لوحة قصة، تذبذبت ما بين تاريخ فلسطيني، وطرفة حكايات شعبية، وحديث نسوة، وورود، وطيور، وفضاء.. باختصار كان المعرض عالماً، أو دون مبالغة كان كسفينة نوح حين أخذ من كل زوجين اثنين..

أتمنى أن يتوالد الزوجان فيصبح بعد المعرض معرض واثنين وعشرة، فيمتعنا ويخرج بنا من روتين الشكوى أن غزة تموت.. بل إن غزة تعيش فبثوا فيها مزيداً من الحياة بآمالكم وأحلامكم وإبداعكم..

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت