ما أشبه حال الوضع الفلسطيني والوضع الأردني اليوم (سيان مع بعض الإختلافات الطفيفة) بحال المطرقة والسندان وما بينهما الضحية، فالمطرقة هي المتحركة والأداة التي تضرب الهدف (الضحية) لتشكله كما يريد الضارب وهي في حالها تمثل مطرقة الإقتصاد التي تستعمل أداة من أدوات الصراع لتحقيق الأهداف، والسندان هو الثابت والذي يمثل السياسة الدولية الفاعلة على هذه الكرة الأرضية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمرسومة لهذين الكيانين والمتمثلة في ثبات تلك السياسة على موقفها والمنحازة كلياً لصالح اسرائيل، ولا تتزحزح عن ثباتها قيد أنملة كالسندان. بغض النظر عن المصلحة العامة العالمية بشكل عام والمصلحة القومية الأمريكية الخاصة المتمثلة في حماية مصالحها الهائلة بالمنطقة.
فلو أخذنا فلسطين بداية وهي بيت القصيد وبيت الداء، والمتمثلة اليوم بالكيان الفلسطيني الناشيء (السلطة الوطنية الفلسطينية)، بموجب عقد إذعان للحاجة ثنائي التعاقد ومبرمٍ بين طرفين أحدهما قوي والآخر ضعيف، وبدون طرف ثالث نزيه يحكم في الخلاف بينهما، لوجدنا أن حال هذا الكيان يشبه تماماً حال الجنين المولود منقوصاً من مقومات الحياة الطبيعية، ولذلك فهو يحاتج الى حضانة أجنة، ويحتاج الى طبيب يراقب حالة هذا الجنين ليبقيه في حالة اللاحياة واللاموت، ومن المفارقات الغريبة أن هذا الطبيب المناوب على تلك الحالة هو خصمٌ لهذا الجنين، لا يريد له الحياة الطبيعية حراً طليقاً كما أراد الخالق لعباده، ولا يريده ميتاً ليستفيد من وجوده المتأصل والراسخ والإندماجي على أرضه لتعزيز وجوده العابر المبعثر بفعل السطو والعربدة ليعيش هو بهاجس الأمن الذي يجمع مكوناته السكانية المختلفة المشتتة، لكي يبقي على تماسك كيانه من التفتيت والإنهيار.
لذلك لا يمكن تطبيق المقاييس والمعايير الدولية الإقتصادية والسياسية ومعايير الفساد والديمقراطية والشفافية على هذا الكيان المضعضع المسلوب الحقوق والإرادة، والذي يرعاه صحياً الطبيب المختصم معه والنافي له المتناقض مع وجوده على هذه الأرض. فحاجات وأولويات هذا الكيان الناشيء الماسة والتي تعلو على كل حاجة هي التحرر والإستقلال من قيود هذا الطبيب المحتل الجاثم على صدره يسرق منه أرضه ومقومات حياته، من ثروة مائية ومعدنية ونباتية وسياحية وكل روافد الإقتصاد المعروفة، متحكماً في حركته وفي قوته وفي معاشه بموجب اتفاق إقتصادي منبثق عن هذا العقد الإذعاني يستعمله الخصم الطبيب حسب إرادته ومتناغماً مع مصالحه كما يستعمل العامل المطرقة لتكسير صلابة الصخر. وذلك لكسر إرادته وطمس هويته. ونفي وجوده ككيان مستقل قادر على الحياة وعلى التعامل مع محيطه كباقي الكيانات لذلك نصب له الخصوم فخاً لإصطياده وهو الديمقراطية والتي تطلبت من هذا الكيان الناشيء القفز عن حواجز التحرر والإستقلال والسيادة على الأرض، فكان السقوط في هذا الفخ الذي يدعى الديمقراطية ونتج أن انشطر هذا الكيان الى شطرين وانقسم جيوسياسياً الى قسمين مختصمين تماماً كما يشتهي الخصوم. ومن الضروري أن يفهم كل فلسطيني أنه لا صوت يعلو في فلسطين على صوت زوال الإحتلال والإستقلال، فبدونهما لا يستقيم الحال، ولا تنشأ ديمقراطية ولا يستقيم نظام حكم ولا تنفع انتخابات. فزوال الإحتلال كفيل بتحقيق كل الأهداف الوطنية الأخرى من ديمقراطية وانتخابات ونظام حكم فهو شعب خلاق ومتعلم ومثقف بثقافات فردية متفاضلة لكنها غير متكاملة نظراً لعدم وجود كيان وهوية وخيمة وطنية جامعة لامَّة بإرادة حرة.
الوضع الإقتصادي لهذا الكيان الفلسطيني الناشيء يشبه تماماً الوضع الإقتصادي لموظف يعمل في شركة مقاولات، راتبه محدود جداً ولا يملك دخلاً إضافياً آخر قط يساعده على بناء اقتصادٍ صحي يحفظ عيشه ومن يعول حياة حرة كريمة، وهذا الموظف يعيش دوماً في حالة عدم استقرار وانعدام للأمن الوظيفي، فهو معرض للفصل فصلاً تعسفياً إن عمل بإتجاه معاكس لطبيبه المناوب وهو خصمه، وكذلك معرض للإستغناء عن خدماته عندما ينتهي المشروع الذي يعمل في نطاقه فيفقد مقومات الحياة، لذلك كان إقتصاده مُسيّساً يخدم السياسة الدولية المرسومة له. ويتحكم بلقمة عيشه من يقيد حريته ويسرق حقوقه ويسلبها منه، ومن يموله بهذا الراتب. فمطرقة الإقتصاد والحاجة الى لقمة العيش تضربه كلما خالف مانحيه وتهدده بقطع الأرزاق والأعناق معاً إن هو غرد خارج السرب وتمرد على مانحيه وماديه بمقومات الحياة الصغرى والدنيا بحيث لا يعيش ولا يموت ويبقى في حالة اللحياة واللاموت.
لذلك يدفع هذا الكيان الناشيء اليوم ثمن تمسكه بحقوقه وثوابته ويطرق الخصوم رأسه اليابسة بطرقة الإقتصاد لتحقيق الهدف السياسي وهو كسر الإرادة والقبول بالحل الإسرائيلي الأمريكي للصراع. ولكن هل يا ترى سيصمد؟
لا شيء أمامه ولا خيار غير خيار الصمود والمقاومة والتصدي بقوة ايمانه بحقه في هذه الأرض. ولا خيار غير الوحدة الوطنية لتدعيم هذا الصمود بالصبر والثبات على الحق حتى يحين موعد الجزاء للصابرين على البلاء من الله. فهل من مُدّكر؟
والتخطيط لهذا الكيان اليوم هو أن يظل يعاني إقتصادياً ليخضع سياسياً لسياسة الإرادة الدولية الفاعلة الظالمة والمنحازة للخصم. ولو كانت النوايا الدولية تجاهه سليمة خالصة للسلام لأنهت معاناته من الإحتلال طبقاً للشرعية الدولية بإقامة دولته المستقلة على أرضه، وهو كفيل بعد ذلك بالتحرر الإقتصادي والإستغناء عن المنح الدولية، فالقدس وبيت لحم والموارد الزراعة والصناعية والتحويلات من الأيدي العاملة في الخارج يكفيانه عن مد يد العون والتسول للآخرين.
أما الأردن فكان قدره أن يعيش لصيقاً بشقيقه الفلسطيني، عاصر نكبته ونكسته، وقاسمه الهم ولقمة العيش، وذلك إمتداداً لتاريخ مشترك طويل كان لا يفرق بين من هو شرقي النهر ومن هو غربه، وعاش معه وحدة إندماجية منذ عام 48 الى عام 67. ولكنه يملك حرية الحركة داخل حدوده الجغرافية وخارجها، ويعد كياناً طبيعياً شأنه شأن كل كيانات العالم يملك السيادة على الإنسان والأرض. ولكنه ليس بمعزل عما يجري في المحيط الذي يحتويه. وليس بمعزل عما يخطط له الخصم والعدو للفلسطيني أولاً والأردني ثانياً، وربما يجيء قريباً وليس بعيداً اليوم الذي يستوي فيه الطرفان بنسبة المخاطر من العدو المشترك لهما والتي تكتنف هذا الصراع في هذه المنطقه.
لذلك يمكن تطبيق المقاييس الإقتصادية والسياسية ومعايير الفساد ومفاهيم الديمقراطية على هذا الكيان، وإعمال النقد بنسبة تقل عن كيان عادي لا يكتنف حياته المخاطر، ويتماشى تطبيق تلك المعايير والمقاييس مع حجم المخاطر التي يتعرض لها من وجود تناقض وإنغماس في الصراع الدائر في المنطقة.
يعتبر الأردن بموقعه وجغرافيته من أكثر مناطق العالم حساسية، فهو يملك أكبر وأطول جبهة مع النقيض الرئيسي للأمة العربية. ويحظى بإهتمام عالمي حذر، والدليل على ذلك قدوم كافة زعماء العالم في تشييع جنازة المغفور له الحسين بن طلال رحمه الله. لذلك هنالك إجماع عالمي على ضرورة استقرار هذا البلد. وهنالك إجماع داخلي على نظام الحكم الا من قلة تنظر لمصالحها الخاصة بعيداً عن المصلحة الوطنية العامة. وأرض الأردن اليوم تمثل بقعة متماسكة يحيط بها مناطق هيلامية وضبابية رخوة من ثلاثة جهات، ومنطقة محقونة بأحقاد صراع قديم متقادم مع عدو يهدد الأمن والإستقرار، لأنه لا يعيش متماسكاً الا في حالة من السخونة والإضطراب واشتعال النيران خوفاً من التفكك والتشرذم لمكوناته السكانية المتناقضة. ويحلم بأطماع تمس الجوار تماساً مباشراً ومتحفزاً للإنقضاض إن أتيحت له الفرصة. كما أن الأردن أصبح البوابة التي تفضي الى الخليج العربي ممثلاً بمجلسه التعاوني الخليجي والذي يمثل مصدر طاقة رئيسي للعالم.
والغريب في هذا العالم وقواه الفاعلة أنها تريد أردناً قوياً من كل الجهات يستقبل ما تقذفه رياح التغيير القادمة من الشمال والشرق من كتل بشرية مشردة من نيران التغيير المشتعلة في دول الجوار تضيف على الأردن أعباءً إقتصادية هائلة، دون أن تمد له يد العون والمساعدة، والتناقض المستهجن في سياسة القوى الفاعلة هي أنها تريده رخواً هشاً من جهة الغرب تماشياً مع انحيازها التام لصالح الجار الغربي للأردن. لذلك يسلط المجتمع الدولي بقواه الفاعلة مطرقة الإقتصاد على الأردن الذي يرى في دعم شقيقه الفلسطيني ومساندته له حماية له ولشقيقه. ويدفع الأردن اليوم ثمناً باهظاً لمواقفه السياسية الثابتة مع الحق الفلسطيني لأن الأردن أن المشروع الوطني الفلسطيني يمثل الدرع الواقي للكيان الأردني ويلغي فكرة الوطن البديل التي ما فتئت تداعب الحلم الصهيوني.
ومما زاد مشاكل الأردن الإقتصادية تغول القطاع الخاص فيه على القطاع العام في ما يسمى بالخصخصة وخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات الخدمية ومؤسسات إنتاج الطاقة التي تهم منتجاتها وخدماتها حياة المواطن الأردني وتمس حاجاته الضرورية للعيش الكريم. ونتيجة لهذا التغول فقد اختفت الطبقة الوسطى للمجتمع الأردني والتي تعمل على تثبيت الاستقرار للنظام الحاكم، وهبطت الطبقة الوسطى الى مساحة الطبقة الفقيرة، واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، وكان الحراك بدافع الفقر والبطلة وحوله المتطفلون في المجتمع بدافع االمصالح الشخصية الضيقة وبعدوى ما يسمى بالربيع العربي الى حراك سياسي لا معنىً ولا مبرر له. ولا يمثل ثقلاً شعبياً يمكن التعويل عليه.
من هنا وفي ظل العقاب العالمي للأردن بمطرقة الإقتصاد لإبتزازه في مواقفه السياسية تجاه الحق الفلسطيني، ومحاولة لي ذراعه التي استعصت على اللي، بات واجباً حتمياً على الأشقاء العرب المقتدرين دعم الأردن مالياً وسياسياً لبقى الدرع الواقي لكياناتهم ويقيها من الإهتزاز بفعل الغليان والضغط الذي تشهده المنطقة.
ولا بد للحكومات الأردنية المكلفة أن تضع الحقائق أمام الشعب، وأن تضع النقاط على الحروف بالمكاشفة والشفافية، ودون وأن لا تلوي عنق الحقيقة ببرامج عمل فيها الكثير من الكلام المعسول والوعود والغزل بالمواطن بدون فعل على الأرض أو دون تحقيق النتائج المتوخاة. وأن يتم تشخص الحالة الأردنية على حقيقتها، وأن لا تهرب من مواجهة الحقيقة بإتجاه عزل حكومة وتعيين خليفة لها وفي وقت قصير جداً. فتنقطع البرامج الحكومية قي بداياتها وتنجو الحكومة السالفة من المساءلة لعدم إعطائها الفرصة لاكتمال تنفيذ برنامجها الذي أعلنته.
الأردن لا يعاني من مشاكل سياسية داخلية، ولكنه يعاني من مطرقة الإقتصاد التي تطرق على جسده لأهداف سياسية دولية فاعلة، ولا شك أنه يعاني من الفساد القديم المتقادم الذي يحتاج اجتثاثه الى وقت طويل، بحكومة وحدة وطنية خالصة من شخصيات وطنية مشهود لها بنزاهتها ووطنيتها، ويحتاج الى صحوة ضمير من الفاسدين الذين أثروا ثراءً فاحشاً نتيجة تغول القطاع الخاص على العام في ظل غياب الرقابة والمساءلة وغياب قوانين مكافحة الفساد في السابق. وبحاجة الى تفعيل الرقابة والمحاسبة وإعطاء الصلاحيات الفاعلة لهيئة مكافحة الفساد دون النظر الى أية حصانة لأي كان لتؤدي دورها على أكمل وجه.
ذكرني تعاقب الحكومات الأردنية السريع المتواتر بقصة شاب أرسله أهله للبحث عن حمارهم الضائع، فذهب الى البر والخلاء باحثاً عن حمار أهله، وخلال تجواله بالخلاء التقى براعية غنم، وسألها عن الحمار وأجابته بأنها لا تعلم عنه شيئاً، وصار الحديث بينهما يجر الحديث في خلوة بين رجل وامرأة وثالثهما الشيطان، فلعب الشيطان دوره بإتقان وفتنهما بدافع الغريزة. فتقاربا وتماسا، وطفق الشاب يقبل الراعية، فاشتم من فمها رائحة كريهة، فانسحب من العناق فجأة، وأدار ظهره لراعية الغنم وهو يهذي "ذكّرني فوكِ بحمار أهلي".
ما اشبه حال الشاب بالمواطن الأردني وما اشبه حالة الفتاة بالحكومات الأردنية المتعاقبة وقصتها مع المواطن الأردني. فكلما جاءت حكومة وطرحت برنامجها بما يحويه من غزل بالمواطن ومصالحه وخدمته والسهر على راحته وتأمين العيش الكريم له، فيقترب منها المواطن المثقل بالغلاء متفائلاً بقرب الفرج، ولما يقترب أكثر يشتم منها رائحة الغلاء ونية رفع الأسعار فيعود للحراك ضد الحكومة لإسقاطها ويتسلق حراكه المتطفلون ويركبون موجة الحراك معلنين عن نواياهم السياسية السيئة. فتختلط الأوراق، وتضيع الدالة وتنحرف البوصلة الوطنية الى الإتجاه الخطأ ويحدث الدوران بالحلقة المفرغة دون أن ينتج عنه طاقة نافعة.
فليحذر الفلسطينيون والأردنيون من الإنزلاق في أتون الفوضى الخلاقة فيخسرن ويربح المتربصون الشامتون بهم. وهذا الواقع فرضته علينا اتفاقية سايكس بيكو، لنكون كيانات وطنية عربية غير متكاملة تشدها الجغرافية ولا يربطها بالتاريخ رابط، تائهة لاهثة وراء قوتها دون إعطاء الوقت للتفكير بعقلها.
وفي النهاية لا بد من ايجاد صيغة سياسية متفق عليها بين البلدين التوأمين السياميين المتكاملين الى حد يمنعهما من السؤال، حيث كان يستند ظهر كل توأم على ظهر أخيه في نهر الأردن الذي سرقته اسرائيل وحولت مجراه وجففته من المياه، وتم فصلهما في عملية جراحية أشرف عليها سايكس وبيكو.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت