في الخمسينات والستينات كان الإعلام العربي حكوميا، وسريا بمعنى أنه كان يبطن عكس ما يظهر في غالب الأحيان، وكان الإعلام العربي لا يتحدث بوسائله القليلة إلا ما يتيسر عن الفكر والثقافة لما يخدم مرحلة ثورات العرب في حينها ومن الزاوية التي تخدم زعماء الدول بكل أنواعهم وتسمياتهم وإلهامهم، وكان مقبولا لدى غالبية الجمهور رغم محدودية الوسائل من إذاعة وصحف ولم يكن التلفزيون قد دخل لهذه الشعوب إلا قليلا .
في السبعينات والثمانينات ازدهر الإعلام العربي بتطور البرامج وصناعة الخبر والصورة وظهرت مماحكات ومحاولات الإعلاميين والمثقفين ليصبح الإعلام مستقلا عن الدولة ولم تنجح بعض هذه المحاولات إلا في دولة مثل لبنان الذي دمرته حرب الطوائف ليصبح في النهاية بعض القنوات التلفزيونية الخاصة وكذلك الإذاعات الحزبية وأيا كانت النظرة لها فهي قد كسرت احتكار الدولة لوسائل الإعلام.
منذ التسعينات والإعلام يأخذ أبعادا تقنية وتعددت الفضائيات الخاصة والمستقلة بين قوسين وتطورت صناعة الصورة والخبر وتعددت أوجه البرامج وأصبح آلاف مؤلفة من الإعلاميين والصحفيين والمراسلين يجوبون بقاع الأرض لرصد أدق الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية والحروب وكانت نقلة نوعية كبيرة في تطور وسائل الاتصالات وما سمي حتى الآن بالطفرة الرقمية وتطور الإعلام العربي وتحسن الأداء التقني كثيرا عما قبل وبدأت استقلالية كبيرة للإعلام عن الحكومات ونكاد نقول، أصبح هناك انفلات إعلامي ليس بعقلية الدولة البوليسية في الخمسينات والستينات، ولكن بطريقة شخصية أو فئوية أو مجموعات من الناس تغيرت طموحاتهم وأجنداتهم، ولكن !!
ولكن هذا الحجم الكبير من الحرية لإطلاق الفضائيات والمواقع الالكترونية ووسائل الإعلام المتعددة الأخرى وهو في الظاهر قد تبدو عليه ملامح التعددية المطلوبة لإغناء الفكر والثقافة العربية لينقل للمواطن الحقيقة والصورة الصادقة والوعي المطلوب لتشكيل ثقافة قوية وغنية في بناء جدر حماية في مواجهة الإعلام المضاد والمناهض لقضايا العرب الإستراتيجية مثل قضية فلسطين وليرتقي بوعي المواطن نحو حقوق الإنسان والتسامح والقيم الإنسانية العليا، وعدم التعصب والقبلية، واحترام النظام والقانون، ولكن ماذا جرى ؟!!
لقد ازداد القمع والاضطهاد والحروب والفوضى واضمحلت الثقافة وتدنى الوعي داخل الدولة وفي علاقاتها مع إخوانها والآخرين وأصبح صراعا ماليا سياسيا جهويا يتحكم ويتجبر إعلاميا أكثر من تجبر الدولة على الإعلام في العقود الماضية، وجنح الإعلام كثيرا لتزييف وعي الشعوب بالخبر الموجه والصورة المفبركة والتقارير الخبيثة والاستطلاعات المزورة والتدفق العصبوي والطائفي وأصبح المشغل المالي لوسيلة الإعلام هو سيد الموقف يمارس أولا الربح الكبير وثانيا العواطف والمزاج الخاص والفئوية البغيضة والطائفية المزرية وحتى يمكن أن تصل الأمور لحد المشاركة في مشاريع تدر أموالا ربحية، لكنها، قد تخدم أجندات خارجية وعدائية لقضايانا العربية.
هنا وقف المواطن العربي حائرا أمام هذا التدفق الإعلامي العربي الكبير والمتنوع الأجندات محتارا في مناسبات كثيرة، وغير قادر على التمييز، بل أحيانا تدفعه الصورة الموجه والخبر المصاغ بطريقة قد تصعب على كبار المثقفين والسياسيين إدراك ما وراءها من خبث يغير في قناعات المواطن العادي والبسيط ليدفعه لمناوئة فكرة ما أو شخص ما أو دولة ما أو موقف، أو النقيض لذلك أيضا فتدفعه لحب وتضامن ومناصرة فكرة أو شخص أو دولة أو موقف، ومن هنا أصبح الإعلام الموجه مسيطرا على حركة المواطن والجمهور نحو مواقف معينة كانت مبنية على التزوير وتزييف الوعي، ووصلت إلى قدرة الإعلام الموجه على النقيضين ففي الوقت الذي ساهمت فيه وسائل الإعلام بتوجيه المواطن للنزول للشارع والثورة على الأنظمة في رحلة الربيع العربي المتوقف عن الانتشار آنيا، كان هذا الإعلام الموجه يأخذ المواطن إلى أين يريد من نتائج، ولازال هذا الإعلام يلعب بوعي المواطن والجمهور رغم اكتشاف المواطن لكثير من الألاعيب لهذا الإعلام ولكن بعد فوات الأوان، وفي يومنا هذا أصبح الإعلام مصابا بالانفصام نتيجة تراجع قوته في التأثير على الجمهور كما السابق في الأعوام القليلة الماضية ، ولكن كيف وصل نفس هذا الإعلام للانفصام ؟؟
لقد أصيب الإعلام العربي المحرك والأكثر تأثيرا على الساحة العربية بمرض الربيع العربي المنفصم بعد توقفه واصطدامه بحائط الصد السوري الذي وصل بالفعل لحد الحرب الأهلية في سوريا دون انجاز وانتصار للثورة حتى هذه اللحظة ، رغم معرفة الجميع بصعوبة ومآل الثورة في سوريا بتركيبتها السكانية وإمكانيات الدولة وتحالفاتها, ولهذا فإن الدول التي مولت ووجهت الإعلام والثورات مسبقا أصبحت في موقف لا تحسد عليه ومن أخطر ما يواجهها أن المواطن العربي شعر بحدوث الربيع العربي عند دول المواجهة مع إسرائيل وتوقفت الربيع/ الثورة عند حدود دول غير ديمقراطية أصلا وهي دول رجعية لا تعمل على مواجهة إسرائيل، ولذلك لن يحل هذا الانفصام الإعلامي والانفصام الثوري/الربيعي العربي إلا باكتمال الثورة في الرقعة الجغرافية العربية لتتوحد التجربة العربية في نفس الثورة للتغيير.
ولذلك لابد أن يبنى الإعلام العربي الجديد على:
1- تثوير ومناصرة الثورة /الربيع في كل الوطن العربي وخاصة دول الخليج والسعودية والمغرب العربي حتى يكتمل التغيير ولا يتم توجيهه بالمال السياسي من أو خوفا على الأنظمة المتبقية.
2- إبراز الوجه الثقافي المشرق للأمة العربية والإسلامية بعيدا عن التسويق للسلطة والحكام الجدد والمتبقين والأحزاب والطوائف.
3- الحرص على الحقيقة الإعلامية عبر الأصول والنظم التي تعلى المهنية والصدق والاستقلالية وعدم الانحياز للمال السياسي.
4- لابد أن يبنى الإعلام الجديد على مواقف ايجابية من قيم الإنسانية وحقوق المواطن وواجباته وليس على مصالح الأحزاب والحكام والسلطة.
5- صياغة القضايا المصيرية والإستراتيجية بعيدا عن زوايا خدمة الحاكم أو ممول وسيلة الإعلام.
6- بناء إعلام ثوري يتناسب وقيم الربيع/الثورة، من العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة وقادر على التصدي للإعلام المضاد وحماية المواطنين من الكذب والتزوير وطمس الحقائق.
7- وفي النهاية وهذه أمانة في أعناق الإعلاميين والصحفيين والكتاب ألا ينجرفوا نحو الكسب المادي بانتهازية أو دون وعي على حساب قضايا الوطن والمواطن وقضايا أمة صبرت كثيرا في انتظار تحقيق أحلامها من أجل الخلاص الجماعي فالخلاص جماعي وللأمة جميعها.
1/11/2012م
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت