فولكلور العيد الفلسطيني

بقلم: علي بدوان


استقبل اللاجئون الفلسطينيون في سوريا عيد الأضحى المبارك لهذا العام، بفرحة مجزوءة ومنقوصة، يَغُصّها الآلم، ويَعتَريها القلق، ليس على ذاتهم وعلى مستقبلهم من قادم الأيام فقط، بل على سوريا والشعب السوري أيضاً، وقد انصهرت تلك الغَصّة وذاك القلق مع (فولكلورهم) الغني في الأعياد العامة، حين تَحولت تلك الأعياد الدينية والروحية في تاريخهم الحديث والمعاصر ومنذ ما قبل النكبة، لمحطات وطنية بامتياز يُشحَذُ فيها الهم الوطني، ويعاد من خلالها استحضار سيرة الوطن الفلسطيني.
فقد بات العيد في مخيمات وتجمعات الشعب الفلسطيني في سوريا، محطة لاستحضار آلام ما يحدث مع زيارة مقابر الشهداء صباح اول يوم من أيام العيد، في لحظات يعانق فيها الأمل والرجاء سماء رب الأكوان في الدعوة المخلصة للخروج من المحنة الراهنة التي تطوق البلاد والعباد، فيما يعمل الفلسطينيون في سوريا بموقفهم الايجابي على تقديم البلسم الشافي ما استطاعوا لاخوتهم وأشقائهم من أبناء عموم الشعب السوري.
الوعي الجمعي والتجربة المعاشة
فقد بات الوعي الجمعي عند عموم الفلسطينيين في سوريا، وعياً مدروساً، لا تجانبه الأخطاء المُكررة، ولا تعتريه مثالب التجربة المرة والمريرة التي عاشها الشعب الفلسطيني عبر أكثر من منعطف في حياته الوطنية المعاصرة، بل تُزكيه وقائع التجربة الفلسطينية الوطنية الحية والغنية، والتي تقوم بالدور الايجابي للفلسطينيين في الأزمة الوطنية الداخلية في سوريا، وهو دورٌ تَرك بَصماته وأثره الطيب بين عموم السوريين عندما تَحوّلت المخيمات والتجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية وبالرغم من تعرض بعضها لأعمال عنفية في ظل الأزمة العامة في البلاد، الى ملاذ آمن للجميع بلا استثناء، والى موئل لكل باحث عن حل للأزمة السورية، حلٍ يجنب البلاد والعباد الدمار ويفتح الطريق أمام الحفاظ على البلد وقدراته وامكانيته وسلامته وسلامة الشعب السوري.
ان خبرة الحياة المديدة والتجربة الطويلة المستمدة من أرض الواقع والتي دفع الفلسطينيون من خلالها أثماناً باهظة، عَلّمت الفلسطينيين معنى وماهية الدور المطلوب منهم في المحنة الحالية التي تعيشها سوريا، البلد العربي الشقيق. فالموقف الوطني الفلسطيني العام على كل مستوياته تجاه الأزمة السوريا هو الموقف الذي يَستند الى فلسفة الحرص على المصلحتين الوطنيتين للشعب الفلسطيني وللشعب السوري في آن واحد.
وفي العيد ومع آلام المشهد السوري، يَنشُدَ الفلسطينيون آمالهم، وفي العيد يَرسمون على جباههم ووجوههم آهاتهم المكتنزة في دواخلهم منذ عقود ليل النكبة الطويل. فالعيد عند الفلسطينيين ليس كالعيد عند غيرهم من أمة العرب والمسلمين، فَهُم في العيد يجددون صناعة الفولكلور الخاص بهم، فولكلور العيد الفلسطيني.
ففي العيد الفلسطيني تتزين الجدران في مناطق تواجد الفلسطينيين في الشتات (مخيمات وتجمعات) بصور وملصقات الشهداء وهم يتساقطون جيلاً بعد جيل. كما تتزين تلك الجدران بالجُمَل والعبارات، التي رسم بها فلسطينيو الشتات ومنهم فلسطينيو سوريا مآسيهم، مؤرخين بخربشاتُ أقلامهم دراما اللّجوء، على جدران مدارس وكالة الأونروا التي رسموا عليها لوحات العودة الى حيفا ويافا وعكا وصفد وطبريا واللد والرملة، العودة هناك الى الوطن السليب، والى الهوية التي مازالت تعيش في وجدان كل لاجئ فلسطيني، فتدمع جدران المخيم عند التحليق عليها.
في عين العاصفة
جاء العيد الكبير، عيد الأضحى المبارك لهذا العام، وفلسطينيو سوريا يعيشون في عين العاصفة، عيونهم وبوصلتهم ترنو الى فلسطين وطنهم الأزلي الأول، في وقت تنبض فيه أفئدتهم حباً لوطنهم الثاني والكبير وهم يتلوعون ألماً وخوفاً على بلدٍ ووطنٍ اسمه سوريا قلب بلاد الشام وهي تعيش محنتها الراهنة.
جاء العيد الكبير و (فلسطينيو سوريا) أو (سوريو فلسطين) يُقاسمون أشقاءهم السوريين متاعب الظروف الصعبة التي تَمُرُ بها البلاد، وقد هزت اليوم الأول من أيام العيد المبارك تلك الانفجارات اللعينة الناتجة عن سيارة مفخخة، والتي ضربت منطقة حي الزهور (دف الشوك) الملاصقة لمخيم اليرموك تقريباً من الجهة الشمالية الشرقية، لتوقع عشرات الضحايا من الأبرياء في تلك المنطقة التي كانت قبل عدة عقود من الزمن عبارة عن أرض زراعية قام عليها المعسكر التدريبي الأول لفدائيي حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) ما بين عامي (1965 ـ 1967) قبل أن يتم نقل المعسكر اياه الى منطقة الهامة، حيث أقيم في حينها المعسكر التدريبي الرئيسي لحركة فتح تحت قيادة الشهيد أبو علي اياد، وهو المعسكر الذي خرج القوافل الأولى من مناضلي وقادة الثورة الفلسطينية المعاصرة بمن فيهم معظم قيادات اللجنة المركزية لحركة فتح.
في اليوم الأول من عيد الأضحى المبارك وفي (حي الزهور) ، سَقَط عشرات الشهداء والجرحى، وفي كل مكان يكون فيه هناك شهداء في أرض العرب والعروبة لابد أن يكون من بينهم شهداء فلسطينيون، يدفعون ضريبة الدم الى جانب أشقائهم أبناء سوريا، فكتب بعضهم في اليوم من الأول من العيد وبعد حادث التفجير المذكور على جدار في مخيم اليرموك عبارة تلخص كل شيء : متعبة هي الجدران في المخيم .. وحزينة هي كل الحكايا ... في بلادي أصبح الموت عادة .. وتلذذ وغواية ... سنبقى نصدح بالحب لفلسطين وسوريا حتى يعود الحب سيد الحكايا. وعلى جدار آخر : لو علمتم أن الحرية تبكي ..فاعلموا أن الفلسطيني غادر المكان.
في السراء والضراء
لقد تَشارك السوريون والفلسطينيون بضريبة الدم، فكانوا على الدوام أشقاء في السراءِ والضراء منذ أن دخل القائد الشهيد الشيخ عز الدين القسام الى فلسطين عام 1922 قادماً من مدينة جبلة الواقعة على الساحل السوري قرب مدينة اللاذقية ليقود ثورة عارمة في فلسطين، ثورة أشعلت لهيب العمل الفدائي المسلح بوجه سلطات الانتداب البريطاني وبوجه الهجرة اليهودية الاستعمارية لفلسطين والعصابات الصهيونية طوال سنوات ثلاثينيات القرن الماضي، ليصبح الشيخ السوري الأصل عز الدين القسام رمزاً للعزة الوطنية والقومية للشعب العربي الفلسطيني ولعموم سكان فلسطين قبل النكبة، وقد أنشدوا في فولكلورهم وأفراحهم وأعراسهم وأعيادهم الأهازيج الشعبية التي تتغنى بسيرة وثورة القسام ومازالت تلك الأناشيد تصدح عبر حناجرهم في اعيادهم ومناسباتهم (على العالم رفرف ياطير الحمام، رفرف على فلسطين والشعب الحر المقدام، من عام الـ 22 حتى الـ 36 كل عموم فلسطين صارت ساحة للقسام).
جاء العيد هذه المرة على فلسطينيي سوريا مُثقلاً بالجراح، وهم الذين سقط منهم حتى تاريخه نحو ستمائة وخمسين شهيداً فلسطينياً على أرض سوريا منذ اندلاع الأزمة الداخلية على أرضها، منهم ما يقارب نحو مائة وخمسين شهيداً من أبناء مخيم اليرموك وحده، هذا المخيم العملاق في دراما السيرة والذاكرة الفلسطينية الحية والمتقدة، المخيم الذي أسس للانطلاقة الفلسطينية المعاصرة رداً على نكبة العام 1948 .
في مخيم اليرموك، وفي شارع الجاعونة (والجاعونة بلدة فلسطينية محتلة عام 1948 وتتبع قضاء طبريا) والواقع على طول الجانب الشرقي من مخيم اليرموك، صَنَع الفلسطينيون صباح اليوم الأول من العيد الكبير لهذا العام ما أسموه كرنفال العيد بمسيرات تقدمتها الفرقة النحاسية والكشفية وصولاً الى مدافن الشهداء في المخيم، تكريماً لسكان هذا الشارع وأبناء الشهداء فيه وعائلاتهم، فقد سقط في هذا الشارع عدة عشرات من الشهداء نتيجة تساقط قذائف الهاون عليه طوال أيام شهر رمضان الماضي أثناء الاشتباكات بين القوات النظامية السورية ومجموعات ما بات يعرف بالجيش الحر التي كانت تتخذ من حي التضامن القريب من الجهة الشرقية لمخيم اليرموك تجمعاً لها، وكان منها قنبلة هاون واحدة تسببت في استشهاد (27) شهيداً من أبناء المخيم في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان الماضي.
في فولكلور العيد الفلسطيني في مخيم اليرموك وعموم الشتات والداخل، تبدأ المراسم بالسلام على الشهداء، وزيارتهم في مدافنهم في مخيم اليرموك، في مقبرة الشهداء الأولى التي يضم ترابها الرعيل الأول من شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة، وصولاً الى المقبرة الثانية.
تبدأ عموم القوى والفصائل والتشكيلات الفلسطينية السياسية والفدائية والمجتمعية مراسم العيد بالمسيرات الى نصب الجندي المجهول في مقبرة الشهداء، والسلام على من سار على درب فلسطين حتى الاستشهاد، فهنا مثوى شهيد سقط في معركة الحمة، وهنا مثوى شهيد سقط في جنوب لبنان، وهنا مثوى شهيد سقط في الجولان وآخر في الأغوار والأردن .. وهنا مثوى زهير محسن، وخليل الوزير، وسعد صايل، وطلعت يعقوب، وممدوح صيدم، وأبو العباس، وفتحي الشقاقي، وأبو صالح نمر صالح، وجهاد جبريل، ومهدي بسيسو، ويوسف عرابي، ووائل زعيتر، وعز الدين القلق ... وهنا مثوى شهيد عربي من العراق وآخر من اليمن وأخر من مصر .. وهنا مثوى شَهيدٍ أممي ألماني وفرنسي ومن أميركا اللاتينية ومن بنغلادش ... وكلهم استشهدوا على الطريق الى فلسطين. هذا هو العيد الفلسطيني في سوريا كما دونه نشطاء مخيم اليرموك:
عيدنا ليلة فرح وطنية وغنية ومواويل
عيدنا بسمة أمل تشرق بفجر جديد
عيدنا بركة ويمن بليلة جمعة ويوم العيد
عيدنا كله وفاء لسوريا وعن درب فلسطين ما منحيد

بقلم علي بدوان
صحيفة الوطن القطرية
الأربعاء 23/11/2011

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت