الأبناء كأصابع اليد، يشتركون ببعض الصفات ويختلفون ببعضها، وأهم الصفات المشتركة بينهم هي أنهم ينتمون لأب وأم، تماماً كما هو الحال في أصابع اليد، حيث تتشابه الأصابع في تركيبها من ثلاثة عظمات وثلاث مفاصل، وتختلف الأصابع بالطول والقطر والوظيفة الفردية. فالأبناء يتوارثون الصفات من عائلة الأب وعائلة الأم، وبعضهم يأخذ من الأم اكثر من الأب والبعض الآخر بالعكس. وكلما تباعدت الأنساب بين الوالدين كان الإختلاف متنوعاً وظاهراً وصحياً اكثر من تقارب الأنساب.
الإختلاف بالشكل والطول والصفات الظاهرة بين الأبناء لا يؤثر كثيراً على مسيرة الأبناء الأخوية، إذ يتكيف الأخوة على هذا الإختلاف ولا يفسد للود قضية في معظم الأحيان، فبعضهم اختصه الله بالوسامة وبعضهم بالطول وبعضهم بالقصر.....الخ.
الإختلافات الباطنية وغير الظاهرة هي التي تؤثر تأثيراً كبيراً على علاقات الأخوة مع بعضهم البعض، فمنهم من ورث صفات نفسية وعقلية ودماغية مختلفة عن الآخر، لذلك يجب الإنتباه والحذر من مناطق الإختلافات تلك والعمل على عدم ترسيخها وتعميقها بالنفوس، ويبرز دور الآباء في التوفيق بين تلك الخلافات وتضييقها الى اقصى درجة ممكنة بميزان دقيق وحساس كميزان الذهب، وذلك بأسلوب التربية وفهم الطبائع والموروثات المكتسبة لكل مولود. ودور الأم هنا يتميز عن دور الأب في هذا المجال لأنها تواكبهم وتجاري نموهم في مراحل العمر المتعاقبة، وتراقب مسيرتهم من مرحلة لأخرى.
ولكن لماذا يجب الحذر من المولود الثاني؟
تزيد درجة الحذر من المولود الثاني كلما كان التشابه في جنس المواليد متتالياً، أن بالمعنى العامي (روسية)، يعني أن تنجب الزوجة ذكراً وبعده ذكراً وبعده ذكراً وذلك ينطبق على تتالي البنات وهنا تصل درجة الحذر والإنتباه الى الحد الأقصى. لماذا؟
تعيش الأسرة على أحر من الجمر بانتظار مولودها البكر. وعندما يأتي يحظى بالعناية الفائقة والإهتمام الكبيرمن والديه، فيكدسون له الملابس والألعاب، وكلما تخطى مرحلة يكبر وتختلف متطلباته ويتم تخزين حاجياته التي ملها من ملابس وألعاب للطفل الثاني، فيكبرا معاً ويلاحظ الطفل الثاني أن والديه يلبون رغباته بحاجات قديمة ولا يكلفهم عناء الذهاب الى السوق، بينما الطفل البكر تتجدد مطالبه التي لا تتوفر فيضطر الوالدان الى الذهاب الى السوق برفقة ولديهما، فيلاحظ الثاني مدى الإهتمام الذي يحظى به البكر ويتم التفاوض مع البكر على متطلباته في المحل الذي يعج بالملابس مثلاً أو الألعاب أمام أخيه المهمل، فيشعر الطفل الثاني بقلة قيمته مقارنة مع أخيه البكر. فيتولد لديه شعورٌ بفقدان الثقة بالنفس وبالنقص، وإن تدخل في الحديث ربما يزجر من والديه أو من اخيه البكر، وإن أظهر شقاوة لجلب الإنتباه ربما يضرب ليسكت حتى ينهيا المهمة.
ويتكرر ذلك في الذهاب للمدرسة، حيث تتلهف الأسرة لقدوم اليوم الموعود والذي يصبح فيه لديهم ولداً بالمدرسة. فيحظى البكر بالإهتمام الزائد له في بداية التحاقه بالمدرسة، فيسود البيت حالة من الإستنفار للتحضير للمدرسة، فتصحو الأم صباحاً باكراً لتلبية حاجاته وتحضير متطلباته ولترافقه في أول يوم مع الأب، وكلما طلب شيئاً يلبى له ويرسمون له اللوحات لتحفيزه ويذاكرون له دروسه منشغلين عن الطفل الثاني بدون قصد منهم، وعندما يحين موعد التحاق الثاني بالمدرسة يخف حماس الأسرة نحو الإهتمام حيث سيطر البكر على غالبية الحماس ولم يتبق للثاني الا بقية من حماس ستكون بالتأكيد اقل من الحماسة للبكر، فيشعر مرة ثانية بقفدان القيمة وقلة الإهتمام. ويعبر عن ذلك بالصياح العالي بدون سبب لجلب الإنتباه له. وربما يخرب بالبيت ويكب المشتريات ويكسر الأشياء ويصل به الأمر لإيذاء نفسه بالسقوط المتعمد أو التمثيلي المصطنع لكي يستقطب الإهتمام والعناية من والديه، مما يضطر الوالدين الى ضربه أمام أخيه البكر، فبشعر بالمهانة والإحتقار، فتبذر في نفسه بذور التمرد، والعدوانية واللامبالاة على شكل عقد في خيوط نفسيته. سيما وأن الوالدين سوف يكنيان باسم ابنهم الأكبر وسوف يناديهم الناس باسمه امام اخيه المولود الثاني الذي لا يكاد يذكر اسمه داخل البيت وخارجه. وإن مجرد اقتران اسم البكر بكنية الوالدين يثير الغيرة في نفس المولود الثاني.
فيبدأ الطفل الثاني يشعر بالعداء والضغينة تجاه أخيه البكر، ويبادله البكر نفس المشاعر، ويتحول الطفلان الى الأخوة الأعداء داخل الأسرة، وكلما اختلى به اخوه البكر ربما يضربه ويتحكم به يصفته الأكبر والأوعى، فيشعر بالإستبداد والقهر نتيجة لسلطة الأخ الأكبر اضافة الى السلطات العليا (سلطة الأب والأم) ويولد بنفسه مشاعرالسخط. والثورة الدفينة كالبركان.
وما يكاد الطفل الثاني يفوق من صدمة حتى يقع في صدمة أخرى، فتتجهز الأسرة لاستقبال مولود جديد يحتاج الى ملابس وتجهيزات جديدة حيث ما عادت تصلح له القديمة، ليأسر القادم الجديد اهتمام وحب والديه وأخيه البكر، الذي يشعر بقدوم حليف له في مقارعة أخيه الثاني. وينصب من نفسه (الولد البكر) حليفاً للقادم الجديد الذي يتودد له نكاية في أخيه الثاني. وتظهر الأسرة ثقتها بالبكر في رعاية أخيه الأصغر بينما تسحب تلك الثقة من الولد الثاني حتى وإن تودد لأخيه الأصغر. ويوصي الوالدان ابنهم البكر وينصبانه رقيباً على اخيه الثاني فيما يختص بالعناية بالمولود الثالث الأصغر وذلك في حالة غياب السلطات العليا وهو ما يسمى بولاية العهد (ويطلق الأبوان والناس على المولود البكر ولي العهد). ويحاول المولود البكر التحكم والسيطرة على المولود الثاني بحكم السلطات الممنوحة له، ويضهده كلما اتيحت له فرصة الإنفراد به ، وسوف يسقط المولود الثاني ما يتعرض له من أخيه البكر على أخيه الأصغر، وربما يضربه ويحاول أن يؤذيه إن اتيحت له فرصة الإنفراد به، فيصيح الطفل الأصغر، وبذلك يتعرض المولود الثاني للعقاب من الأبوين امام اخويه. فالحالة تلك تضع المولود الثاني بين نارين، نار الغيرة من أخيه الأصغرالذي يعتبره سارقاً لحنان والديه واهتمامهم منه، ونار الإنتقام من الأكبر الذي يعتبره سالباً لحقوقه من أهله بأثر رجعي.
فيتحول الطفل الثاني إما الى طفل شقي متمرد ومشاغب، يصعب رضاؤه والتودد اليه، أو الى طفل منطوٍ منكسر المشاعر. ويائساً وناقماً ومتمرداً ولا مبالياً ومحبط الآمال من صغره. ويكبت معاناته صامتاً لعدم قدرته على المقاومة، وهذه المشاعر تكون بذوراً لعقد نفسية سوف تظهر عند الكبر. ولا يعجبه من حاجيات وملابس ما يعجب اخوانه، فيريد أن يكون مميزاً عنهم وخاصة باللون.
وإن تحول الى طفل شقي متمرد في صغره، ستكبر بذور العقد النفسية وسينقلب الى يافعٍ غامضِ ومنطوٍ على نفسه عندما يكبروذلك لخجله من ممارسة الشقاوة في كبره فيتعرض للنقد من المجتمع، ولذلك يميل الى الهدوء المشوب بالحذر، ومن تحت الهدوء يلتهب بركان يغلي وقابل للإنفجار السريع عند الإستفزاز، ولا يثق بوالديه ولا بأسرته، ولا يعتد برأيهما، ويصبح عنيداً متمسكاً برأيه ومخالفاً لآراء غيره حتى يصل به الأمر الى معاندة نفسه والسير في غير مصلحتها إن كان هذا العناد للنفس جزء من العناد للأهل الذين يبحثون عن مصلحته، فيضحي بمصلحته في سبيل عناد أهله.
وإن مال الى الإنكسار واليأس والإستسلام، سيتحول في كبره الى متطرف مشاغب ومتعصب عدواني الطباع، ومحب للإنتقام وربما ينجرف في التيارات المتطرفة المتعصبة للدين أو الحزب أو الطائفة بحثاً عن النفس ووضع بصمة له بالحياة عانى من غيابها في صغره لنكرانه.
وحقيقة فقد عملت احصاءً فضولياً على عينة كبيرة من الأصدقاء والمعارف فوجدت أن اكثر الشكاوى من الأبناء وعدم توفيقهم تنصب على المولود الثاني. وأحببت أن أنبه لهذا الأمر الخطير في التربية، وإعطاء كل طفل حقه دون تمييز فيما يختص بالحاجيات والمتطلبات ومن الأفضل التصدق بالحاجيات والأشياء والملابس التي تخص البكر وشراء الجديد للمولود الثاني.
لا تعتقدوا أيها الآباء أنكم أذكى من أطفالكم، ولا تحاولوا الإلتفاف على عقولهم بالحيلة والخداع والتدليس والوعود الكاذبة البراقة من أجل التخلص من المواقف والأسئلة المحرجة التي يلقونها عليكم ونسيان ما وعدتم به، فالطفل ذكي جداً فيما يختص بحقوقه مقارنة مع أشقائه، ولا ينسى وعداً ابداً، ولا يحوز على اهتماماته غير ذلك في تلك المرحلة، وهو يرقب ويرصد تصرفاتكم ويسجل أقوالكم وأفعالكم بكل دقة ، ويسجل كل واردة وشاردة ويخزنها بذاكرته، فإن لم يحاسبكم عليها في حينه، سيحاسبكم عليها في الكبر عندما يتعرض للفشل أو الكبوات ويذكركم بما كنتم تعملون وبما فرطتم به من حقوق تجاهه ولم تكونوا قاصدين أو متعمدين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت