( الأخ أبو مازن ) .. هذه رسالةَ أُمي إليك

بقلم: منذر ارشيد

بسم الله الرحمن الرحيم
( الأخ أبو مازن ) .. هذه رسالةَ أُمي إليك

سيادة الأخ الرئيس محمود عباس المحترم تحية وبعد
ما أكتبه ليس مجرد مقال ولا فكرة راودت خاطري, إنما هي أمانة حملتني إياها والدتي قبل وفاتها , منعتني الظروف ولربما لم تأتِ مناسبة منذ ذلك الوقت ..
أما اليوم وقد تكرمت بتهيئة المناخ والمناسبة من خلال ما صرحت به عبر التلفاز الإسرائيلي
فحقٌ علي لوالدتي أن أبلغك رسالتها وحقٌ لك أن تتسلمها فهي أمانة
لست هنا بصدد تقييم ما قاله الرئيس محمود عباس وقد أخذت المسألة دورها بالضجيج
وعرض البعض عضلاته شاتماً وشامتاً,وكما فسر المستشارين الماء بعد الجهد بالماء
ورأيي المتواضع أن الكلمة الطيبة التي تخرج الأفعى من جحرها لا ولن تنفع مع هؤلاء
لأنه إن أخرجت أفعى , فالجحر يحوي الكثير من الأفاعي ناهيك عن الحيتان التي تبتلع كل شيء حتى الأفاعي , ولو أن في إسرائيل من يرغب بالسلام لأنقلب الوضع ولرأينا طلاب السلام يقودون ربيعاً عبرياً قبل الربيع العربي

ما ستقرأه حقيقة واقعة حصلت ومن والدتي وربما يكون السرد طويلاً وقد أدخلت على رسالتها بعض الأمور المرتبطة بالموضوع وفيها سيرة ذاتية عن والدتي .

سيادة الرئيس ..والدتي كانت أعرف الناس بما يجري , وقد كتبت عنها أكثر من مقال وكان أهمها مقال تحت عنوان( لماذا لا تكون أمي كبيرة المفاوضين ) شرحت خلاله الكثير من الأمور والسبب كان عُقم المفاوضات
وكما قلت ليس مقالاً بقدر ما هو أمانة حملتني إياها الوالدة التي رددت إسمك وهي على فراش الموت أكثر من مرة , والغريب في الأمر أنها دخلت في غيبوبة الموت ولمدة 36 ساعة قبل وفاتها بثلاثة أشهر , اعتقدنا حينها أنه جاء الأجل المحتوم خاصة أن الطبيب أبلغنا بأنها دخلت مرحلة الكوما( الغيبوبة) فبدأنا نُعد العدة ,ولكنها فاجأتني وأنا فوق رأسها أقرأ لها ما تيسر من كتاب الله كي تهدأ روحها وتستكين عند لقاءه , وإذا بها وأشهد الله على ذلك تفتح عيونها وبشكل مفاجيء , وتقول بدون أي مقدمه ... إنت هون يَما ..شو أخبار أبو عباس .. !
ظننت أنها تسأل عن أبن عم لوالدي الذي كان من المقربين إليها وقد توفاه الله قبل ثلاث سنوات , فقلت في نفسي أنها بدأت ترى جماعتها
في الاخرة , واعتقد ت أنها لحظة ما قبل الموت
قلت وأنا أربت على رأسها وأقبلها : أبو عباس تعيشي إنت يَمًا , الله يرحمه

رفعت رأسها المثقل وقالت وبدهشه : قتلوه ..قتلوه ..لحقوه بأبو عمار وقالت وهي تكاد تبكي ..ما أنا كنت عارفه من زمان, مش قلت لك يَمًا ..هدول اليهود ما لهم أمان

أدركت أنها لا تعني عمنا المرحوم عبد الرحيم أبو عباس رحمه الله , وفهمت قصدها ولكن أحببت مداعبتها قليلاً , فقلت.. مين قصدك يَمًه .!
قالت وهي تبكي بأشد حرقة وصرخت : مين يعني.. أبو عباس ..رئيسكم هو في غيره
الله يرحمه إهيء إ هيء.. وهات يا بكاء ونحيب وكأنها فقدت عزيز وغالي
ثم استدركت وبشكل فوري وبلهجة قاسية وكأنها لم تكن تبكي لحظتها و قالت ..
الله لا يرده بيستاهل .. ما شاف شو عملو بأبو عمار ..!
أبو عمار شو عمل لهم حتى يقتلوه ..! وقع معهم أوسلو وإعترف لهم باسرائيل على فلسطين
شوبدهم أكثر من هيك , يعني أبو عباس بيقدر يعطيهم أكثر ..شو بدو يعطيهم بعد
أي هو ظل شيء ..!
ثم استدركت مرة اخرى فبكت بكاءً مراً وقالت حرام حرام حرام عليكم يا يَمًه
ليش هيك بتعملوا بحالكم ..ما بتتعلموا ما بتخذوا دروس ..بس يضحكوا لكم شوي بتركضوا عليهم وبتسلموا لهم رقبتكم هيك بكل سهولة,
نظرت إلى الأعلى وقالت الله يرحمك يا ابو عباس


قلت : يا يَما هذا إسمه أبو مازن محمود عباس وبعدو طيب ولم يمت ..
نظرت إلي نظرة عتاب وقالت : لعاد ليش قلت لي أنه مات .!
انت بتضحك علي .. يَمًا أنا بحكي جد وما بمزح طمني شو صار بفلسطين .! رجعت ..رجعها أبو عباس ..!
نظرت إليها بدهشة كبيرة وزاد ضحكي وقلت ..شو جاب كل هذا على بالك الان ..!
الحمد لله على سلامتك يما ..الان بدي تأكلي..انت بتعرفي إنك من يومين
بدون أكل ولا شُرب .!
قالت : ليش بتهرب من سؤالي ..ما دام ما مات هذه فرصة له وقول له : خليك بكرامتك
لأنهم مهما قدمت لهم بيطلبوا المزيد وهيك هيك راح يقتلوك
قلت وقد غلبني الضحك وقد عمت قلبي الفرحة على أنها عادت بحيويتها المعهودة لا بل أكثر



تحدثت وكأنها نامت كنومة أهل الكهف ..وقالت كلاماً كثيراً وكبيراً
لم أسمعه منها من قبل وطلبت مني أن أوصله لك يا سيادة الرئيس ..وسأوصل لكم أهم ما جاء فيه
ولكن وقبل ذلك دعني أخبرك أمراً ذا صلة ..!
والدتي يا أخ أبو مازن كانت سيدة مثقفة تتحدث وتفهم اللغة العبرية وقليلا ً من الإنجليزية , ورغم أنها لم تكمل دراستها وقد تزوجت بوالدي الذي كان يعمل كطبيب أسنان بداية في حيفا ثم في مدينة جنين بعد النكبة ,من مؤسسات جمعية الهلال الأحمر في جنين وهي على درجة كبيرة من الوعي السيا سي , لم تكن تثق بأي زعيم عربي على الإطلاق ,كانت تقول أنهم مجرد أحجار شطرنج بيلعب فيهم الانجليز وهم بيلعبوا فينا , وكانت في مرحلة النهوض القومي أكثر ما تكره المرحوم عبد الناصر مما أثار مشاكل لها في البيت فوالدي كان من عشاق الزعيم الراحل كما كان يعشق أم كلثوم أمي كانت تكره الإثنين معاً ,

في حرب حزيران وفي أول ساعات الحرب وقبل أن يعرف أحد حقيقة ما يجري وبينما كان أحمد سعيد يقول.. أسقطنا 70 طائرة للعدو وتجوع يا سمك ..مما أشعل البهجة في نفوسنا صرخت وقالت ..والله إنه كذاب والطائرات التي سقطت طائرات العرب, والسمك سيموت من الجوع والجيش المصري سيموت من العطش في الصحاري ..لم أحتمل ما قالت وصرخت بها قائلاً ..أنت طابو خامس
ولم يمضي ساعات حتى تبين أن كل ما قالته أمي كان صحيحاً ..لقد وصفت مجريات الحرب بكل تفاصيلها تقريباً في الساعة الثانية عشر ظهر يوم الخامس من حزيران والناس كانت في الشوارع يبتهجون بالنصر الذي كان يبشر به أحمد سعيد
كانت تصرخ باعلى صوتها وتقول اغلقوا الراديو لا أريد سماع صوت العرب وأحمد سعيد
الكذاب .. كنت أكاد أجن منها وأقول لها أنت مش عربية ما عندك روح وطنية
ترد وتقول ولك يا مجنون لو فيهم خير العرب ما بيولعوها في الإذاعات والتهديدات لإسرائيل من قبل أشهر ..الي بدو يحارب بيجهز جيشه على الصمت مش بالأغاني
(ويلك يا عدوي يا ويلك أنا جاييك أهد حيلك )
أنا بعرف اليهود وبعرف كيف بيفكروا .. ولك عبد الناصر كان يهدد وهم كانوا بيستعدوا , اليهود ليسوا أغبياء ونايمين ..يما أفهموا إفهموا اسرائيل كانت ساكته وبتبكي للعالم بس كانوا بيحضروا حالهم على السكت ,,

الأخ الرئيس أبو مازن ..لقد أمنتني أمي أمانه لأبلغك إياها وفوراً ..ولكن وقد فات على وفاتها عامين ولم يكن هناك مناسبة بأن أفصح عما قالته حتى جائت المناسبة اليوم وبعد تصريحاتك في التلفزيون الإسرائيلي في موضوع العودة وكأني بالأقدار تجبرني على أن أفي بوعدي لوالدتي


والدتي يا سيادة الرئيس ولدت في حيفا من أب أصله تركي فأصبح شامياً بعد أن تخلف والده وأعمامه عن ركب الجيش العثماني وفضلوا البقاء في الشام مع بقية أقاربهم وهم من آل الزعيم المعروفين هناك
وكان جدي رحمه الله يعمل في الخط الحديدي الحجازي ومقر عمله في حيفا
بنى بيتا ً من أربع طبقات على هدار الكرمل في شارع عكرون وبالضبط مقابل ميناء حيفا ورقم المنزل (51)
تذكر أمي قصص طفولتها مع صديقتها اليهودية زهافا والتي أسكن جدي والدها في غرفة
في الطابق الأول دون أجر ,كان يشفق عليه ويحبه حيث كان يعمل معه ميكانيك في نفس الخط الحجازي متخصص في القطارات
كلنا في البيت عرفنا زهافا وأحببناها دون أن نراها لكثر ما كانت تذكرها الوالدة , وقد روت لنا عن علاقتها بها منذ الطفولة وقد دخلتا الروضة ومن ثم المدرسة معا وفي نفس الفصل الدراسي حتى تزوجت والدتي وعمرها خمسة عشر عاما ً وتزوجت زهافا بعدها بأشهر قليلة , روت لنا كيف كانت تقتسم مصروفها , ساندويشها وتفاحتها مع زهافا لأن زهافا كانت فقيرة ,عدا أن والدها بخيل , حصلت النكبة عام 47وهاجرت والدتي
وبعد عشرين عاماً وبعد حرب حزيران عام 67 ذهبت الوالدة لزيارة بيتها وهي تحمل شوقها لاستعادة ذكريات طفولتها ..فوجئت بوجود زهافا مما زاد سعادتها في تلك اللحظة
استقبلتها زهافا التي استولت على الطابق الأول من البيت هي وزوجها وأبنائها بعد موت والديها .. إستغربت أمي من استقبال صديقتها زهافا لها بفتور وامتعاض فاضح
زهافا رفضت طلب والدتي الدخول لبيتها ورؤية غرفتها التي ولدت وترعرعت بها
لا بل أكثر من ذلك طلبت زهافا من والدتي أن تنظف وتدهن جدران منزلها في جنين لأن أولادها يريدون الزواج , والبيت في حيفا ما عاد يكفيهم , وقالت لأمي التالي ..
( أتمنى عليك إخلاء بيتكم في جنين والذهاب عند الملك حسين في الأردن لأن وطنكم هناك )

ملاحظة : (أخبرتنا والدتي قبل عامين من وفاتها سراً كانت تُخفيه وقالت ..أن زهافا جائتها إلى جنين ومعها عرض لبيع حصتها من بيت والدها بمبلغ مليون ونصف مليون دولار , تقول والدتي أن الشيطان كان سيسيطر علي وكدت أوافق , لولا أن رأت برهاناً على شقائها في المنام ..وقالت إنه ليس حلم بل مثل الحقيقة.. رأيت المال وبعد أن قبضته حملني أشخاص عمالقة وحشو المال في فمي حتى إمتلأ بطني وأصبحت كبرميل ضخم فحملوني ورموني في حفرة من نار , فنهضت ولم أنم حتى كان موعد وصول زهافا لكي تأخذ الجواب الأخير,
فما أن شاهدتها تدخل البيت حتى طردتها بكل قسوة )

الأخ أبو مازن قبل أن أبلغك الرسالة ساروي هذه الحادثة أيضاً ..

بعد وصولي إلى جنين وبعد إتفاق أوسلو , حيث كان الاستقبل بي حافلاً والنساء يغنين ويرقصن فرحا ً داخل البيت بينما الرجال يتوافدون إلى الحديقة
نادتني إحدى قريباتنا وطلبت مني الدخول الى الداخل كي أرى أمي التي تبكي وتنوح بصوت عالي مما أثار حفيظة المحتفلات ووقلب جو الفرحة إلى أرتباك
فعندما سألتها عما يبكيها نظرت إلي من طرفي عيناها وقالت وهي تبكي حتى الندب
( ضحكو عليكم يا يما وجابوكم على القفص مثل دجاج المزارع ..للذبح )
قلت لها.. لا يا أمي جئنا بإتفاق سلام والأمور ماشيا تمام
قالت :سلام ..! يا سلام سلم يا سلام , تعالوا يالله ننام .. بالمناسبة
(كانت والدتي من النوع المرح جداً وكانت كجدتي رحمها الله, لكل حادث لها مَثل ونكتة)
وأضافت قائلة .. يا حسرتي عليكم راحت فلسطين وراح تروح الضفة كمان
ضيعتوا عمركم من شان فلسطين .. وبالاخر حطيتوا أيديكم بأيديهم .. كان يا يما ليش كل هالتعب والشباب اللي ماتوا ..! وانت.. أنا ما كنت أقول لك..أترك وروح اتعلم كله حكي فاضي العرب ما فيهم خير , أنا ما لحقتك على القواعد ونزلت على رجليك أبكي وشفق علي المسؤول وقال لك روح مع والدتك ..أتتذكر ما فعلت بي يومها ..! صرخت علي وقلت لي خزيتيني وفضحتيني أمام أصحابي .!
أعطوكم بواريد يمَا ..اليهود أعطوكم سلاح ..ليش أعطوكم ممكن تفهمني ..!
بواريد مصدية وهم عندهم طائرات وصواريخ . وأنتم جيش أبو بارودة
والله إني شايفة ذبحكم مثل ما أنا شايفتك قدامي
عانقتها وقلت لها هوني عليكي يما الان وخلي الناس فرحانه ولا تنس إن أبو عمار قائد محنك وما بيفوتوا كل هذا توكلي على الله
قالت : أبو عمار لا محنك ولا شي راح يأخذوا على البحر ويرجعوه عطشان , بلع الطعم وراحت عليه وراح يدفع الثمن غالي إذا ما مشي مثل ما بدهم وحتى لو مشي مثل ما بدهم
وأعطاهم ماء عيونه .. خلاص ما بيلزمهم

قلت : يا أمي بالله عليكي إرتاحي الان وسيبك من السياسة
قالت : انا ما برتاح إلا تا أموت لأني متاكدة إنكم دخلتوا في أوسلو على كفن مش على وطن
وأضافت : يا يما إذا زهافا هذه صديقة عمري رفضت أن أرى غرفتي ويا ريت هيك وبس
بدها بيتنا هذافي جنين يعني بدهم الضفة كمان ..أنتم مصدقينهم والله إلا يلعبوكم على أصابعهم قبل ما يموتوكم قهر .! لأنهم ما راح يخلوكم تتهنوا بالضفة واللي بيعيش بيذكر الثاني ..

الأخ الرئيس أبو مازن ..نعود لما قالته أمي عنك وهي على فراش الموت
فبعد أن سألتني عن أبو عباس الذي هو أنت طبعاً قالت .. هو أبو عباس من أي بلد مش من صفد يا يما .!
قلت لها .. نعم من صفد
قالت.. أمانه عليك أن تقل له أن يذهب ويزور صفد
قلت لها .. يمكن أنه زارها ..ولكن ليش بدك يزورها
قالت .. لو يزورها مرة ويشوف جمالها وشتم هوائها ليترك رام الله والسلطة ويطلب أن يقضي بقية عمرة فيها ..بتعرف يا يما أنا بنت حيفا وكان أبوي يوخذنا هناك والمدر سة توخذنا رحلات لصفد
يما صفد يا صفد ما أجمل صفد.. بتعرف أجمل بلد في فلسطين ..صفد يما جنة من جنات الأرض .جبال ووديان وهضبات وشجر ومياه, وقلعة إذا وقفت عليها بتشوف الدنيا كلها
قول لأبو عباس أمي بتقول لك روح على صفد , أكيد بيته بعده موجود لأني زرتها قبل أكم سنة
بعد بيوتها القديمة موجودة واليهود بنوا مستعمرتهم بجنبها وخلو البيوت القديمة مثل آثار للسياح وعاملين في بعضها مطاعم مثل كان زمان اللي في عمان
بتعرف يما أنا لو اني لوحدي ما ورائي مسؤولية وأولاد وأحفاد لبقيت في بيتنا في حيفا غصب عن زهافا ولو بيقتلوني, على الأقل بموت وأنا مرتاحة وفرحانه لأني متت على عتبة بيتي
نظرت إليها وقبلت جبينها ويدها وقلت لها ..أقول لك شيء يريحك ويفرحك
قالت شو بيفرحني يما وأنا بموت بعيدة عن حيفا .!
قلت لها أتؤمنين بالله ..!
قالت الحمد لله
قلت .. قال الله تعالى .. وما عند الله خيرٌ وأبقى ..والجنة لمن اتقى يا أمي
قالت والدموع بعينيها.. يا الله يا ربي يا حبيبي إذا أدخلتني الجنة فأدخلي من باب حيفا
الأخ أبو مازن لم تتوقف والدتي عن ذكر حيفا حتى لفظت أنفاسها .

رحمها الله .. وأعانك على الصمود والثبات وحسن الختام

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت