العودة إلى أرض فلسطين التاريخية حق غير قابل للتنازل أو التفاوض
ثار الجدل مؤخراً حول قضية حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى فلسطين التاريخية ، إن حسم هذا الجدل هو في تأكيد حق الشعب الفلسطيني في كل ذرة من تراب أرضه ووطنه ، وهذا من أهم ثوابت وأركان القضية الفلسطينية التي قضى من أجلها الشهداء وضحى الأسرى الأبطال بحرياتهم ، والتي يجب أن يتوحد عليها كل الشعب الفلسطيني ، وهي رمز صدق الانتماء والإخلاص لهذه القضية العادلة ، فلا يقبل من أي فلسطيني مهما كان أن يفكر بخلاف ذلك .
إن العودة إلى الوطن والممتلكات حق تتمتع به كل شعوب الأرض ، فالحروب التي وقعت بين الدول نتج عنها لجوء جبري للسكان الذين يفرون من مناطق الصراع إلى أماكن آمنة لينجوا بأنفسهم وأهليهم ، ويقيمون في مخيمات مؤقتة وتقدم لهم مواد الإغاثة من الأمم المتحدة ومنظماتها ، وتأتيها المعونات من جهات إنسانية عديدة ، فإذا ما انتهت الحروب عاد السكان المشردون إلى وطنهم بإشراف الأمم المتحدة أو الدول أطراف النزاع ، لكن هذا لا ينطبق على الفلسطينيين ، فهم وحدهم المحرومون من هذا الحق إرضاء لإسرائيل واستجابة لمنطق القوة الذي تفرضه القوة العظمى على العالم ، وهذا إجراء عنصري يتنافى مع الشرائع الإلهية والقرارات الدولية ، التي تعتبر تهجير المدنيين قهراً إلى خارج أراضيهم المحتلة انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان في حالات الحرب أو الاحتلال ، وتفرض العقوبات على الدول التي تقترفها .
إن حق عودة اللاجئين من الشتات يمثل جوهر القضية العادلة للشعب الفلسطيني وركناً أساسياً من أركان السيادة الفلسطينية ، بل هو أصل القضية لأنها قضية شعب شُرِّد بالحديد والنار من وطنه ، فهو حق مقدس يستمد شرعيته من القرار رقم 194 وغيره من القرارات الصادر عن مجلس الأمن الدولي ، وإن إلغاءه يعني تفريغ هذه القرارات من محتواها ، خاصة أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في الشتات يتجاوز الآن حوالي ستة ملايين لاجئ ، مما يعني أن الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني لن تتمكن عندئذ من ممارسة حقوقها الكاملة التي نصت عليها تلك القرارات .
إن العقود التي مرت على تشريد أبناء شعبنا من وطنهم لم تزدهم إلاَّ تمسكاً بأرضهم وبحقهم هذا ، فلا يتنازلون عنه رغم المساومات والإغراءات ، ويعتبرونه من المقدسات الوطنية التي لا يمكن التفريط فيها أبداً ، ولا يسمحون لأي طرف كائناً من كان أن يقرر إلغاءه ، فإن أحداً لا يملك التنازل عنه باسم الشعب الفلسطيني أو نيابة عنه ، فالتفريط فيه أو قبول التعويض عنه تصفية لقضيتهم ، واستسلام لإرادة عدوهم المغتصب في التلاشي والذوبان .
ورغم الترويج لفكرة توطين اللاجئين في العالم العربي بل وفي فلسطين نفسها ، إلاَّ أنهم يرفضون هذه المؤامرة التي تحاك ضد حق العودة وتثار بين الحين والآخر بهدف شطبه ، ويرون أنه مخطط قديم انهار أمام صمود الشعب الفلسطيني وإصراره ، ولا يمكن اليوم إحياءه من جديد ، فهم لا يرضون لوطنهم الحبيب وأرضهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين بديلاً ولو كان فردوس الدنيا .
فقد علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن حب الوطن من الإيمان ، حيث تآمر مشركو مكة للقضاء عليه والخلاص من دينه ورسالته قال تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } الأنفال 30 ، فلما أُخْرِجَ منها رغماً عنه وقف يخاطبها حزيناً لفراقها { والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ؛ ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خرجت } رواه الترمذي ، ومع ذلك استمر صلى الله عليه وسلم في دار هجرته عاملاً مجاهداً ، حتى دخل مكة فاتحاً في السنة الثامنة للهجرة فانهزم الشرك والمشركون ، وظلت مكة المكرمة ، وعاد إليها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممن أُخرجوا منها بغير حق ، عادوا إلى ديارهم وأولادهم وأهليهم ، فتحقق الوعيد من الله تعالى الذي حذر قريشاً أن تخرجهم ، لكنها كابرت واستكبرت فألجأتهم إلى الخروج ولم تبالِ بشيء قال تعالى { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً } الإسراء 76 .
وليعلم الاحتلال الغاصب ومن تسول له نفسه القفز عن هذا الحق أن أرض فلسطين ليست ملكاً لهم بل هي أرض عربية إسلامية مباركة ، قرر ذلك رب العالمين سبحانه من فوق سبع سماوات قال تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 ، وسيبقى أبناؤها متمسكين بها مدافعين عن عروبتها وإسلاميتها ويفتدونها بالمهج والأرواح .
إن النكبة التي شرد فيها من وطنه بقوة الحديد والنار في عملية تطهير عرقي استهدفت وجوده في مدنه وقراه الفلسطينية هي جريمة حرب ينبغي محاكمة كل من أسهم فيها من أصغر جندي إلى أكبر مسؤول في كيان الاحتلال ، وملاحقته ومساءلته قانونياً أمام القضاء الدولي بحسب ميثاق روما الذي أنشئت على إثره محكمة الجنايات الدولية .
إن حق العودة هو لب القضية الفلسطينية العادلة دينياً وتاريخياً وقانونياً وإنسانياً ، وحق مقدس تجتهد إسرائيل في إنهائه واغتصابه كما اغتصبت الأرض والمقدسات لتتمكن من إنهاء الصراع مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين ، لكن الشعب الفلسطيني عنيد في المقاومة ، مصرٌّ على التمسك بالعودة رغم القهر والمساومة .
وهو حق شخصي لغايات المطالبة به وليس التنازل عنه ، غير قابل للتصرف لكل من أبعد عن أرضه ولا حتى من قبله هو ، ويخص ورثته من بعده جيلاً بعد جيل حتى يعودوا جميعاً إلى أرضهم وممتلكاتهم ،
وهو حق عام لكل فلسطيني ويمثل بالنسبة له حق الانتماء إلى وطنه ، فكل فلسطيني وإن لم يكن يملك أرضاً أو عقاراً فيها شريك في كل ذرة من ترابها وفي كل نسمة من هوائها ، فالانتماء حق مرتبط بالهوية والوجود وبالامتداد الإنساني من الآباء والأجداد ومن بعدهم إلى الأبناء والأحفاد ، فلا يجوز لأي مواطن أن يقطع هذا الانتماء لأنه تراث الآباء والأجداد ، وحق مورَّث للأبناء والأحفاد .
وتعتبر العودة حقاً قانونياً للشعب الفلسطيني ، فقد ارتبط قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة بقبولها شرطين : الاعتراف بقرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29|11|1947 ، والاعتراف بقرار حق العودة والتعويض رقم 194 الصادر في 11|11| 1948 ، والذي ينص في أهم فقراته على وجوب السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة في أقرب وقت ممكن إلى ديارهم ، ووجوب دفع الحكومات أو السلطات المسؤولة تعويضات عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر في ممتلكاتهم ، بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون . فوافقت إسرائيل عليهما ، لكنها لما حصلت على الاعتراف الدولي بعضويتها تنكرت للمجتمع الدولي في هذين الشرطين ، وأعاقت تطبيقهما وما انبنى عليهما من قرارات وتأكيدات لعدة عقود منذ صدورها وحتى اليوم ، سواء في ذلك حق العودة والتعويض وحق إقامة الدولة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية ، وليس هذا بالأمر المستغرب أو المستهجن منها ، فهذا ديدنها منذ القدم وهذه أخلاقها في التعامل مع كل الأمم في الماضي والحاضر قال تعالى { أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } البقرة 100 . فليعلم العالم أن عدم تطبيق حق العودة والتعويض يفقد إسرائيل الاعتراف الدولي بها ، فهذا مفهوم اشتراط المجتمع الدولي لعضويتها الأممية .
إن قضية اللاجئين الفلسطينيين هي أقدم وأعدل قضية لاجئين في العالم ، وهي قضية فريدة من نوعها لا نظير لها لذا احتاجت الحماية الكاملة من المجتمع الدولي ومنظماته الرسمية ، بل إن اللاجئين أنفسهم يحتاجون الحماية الكاملة لهم ولحقوقهم ، فهم يشكلون ثلثي الشعب الفلسطيني وهذه أعلى نسبة لاجئين بين شعوب العالم على الإطلاق .
ولأن فلسطين أرض وقف إسلامي غير خاضعة للبيع ، فإن قبول اللاجئين أي تعويض عن أراضيهم وممتلكاتهم لا يجوز شرعاً بإجماع علماء الأمة ، لأنه بيع للأرض وتنازل كامل عنها للمحتل الغاصب ولو كان مقابل المبالغ الطائلة ، فقد أفتوا بحرمة ذلك قطعياً مطلع القرن الماضي ، وأحد منهم لم يخالف هذا الإجماع منذ ذلك الزمان وحتى اليوم .
أما فكرة تعويض اللاجئين عما عانوه من أضرار مادية أو نفسية حلت بهم وبأبنائهم وأحفادهم منذ النكبة فتمثل حقاً إضافياً آخر لهم ، لكنه ليس بديلاً عن حق العودة ولا ينفصل عنه لا بل هما حقان متلازمان . وتتحمل أعباء هذا التعويض جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وجيوشها والمنظمات الصهيونية وكل المؤسسات التي أسهمت في إيقاع الضرر بالشعب الفلسطيني لأنها الجهات التي تسببت بهذه الأضرار ، وتتحمله أيضاً جميع الدول التي تؤيد إسرائيل وتساندها في إعاقة تطبيقه .
أما فكرة التوطين ولو في الضفة الغربية وقطاع غزة فلن يقبل الشعب الفلسطيني بها أبداً مهما كانت المغريات أو عظمت التضحيات ، فالتوطين القسري هو الآخر جريمة حرب كالتهجير ، لأنه يحرم اللاجئ الفلسطيني حقه في العودة إلى أرضه وبيته ، ويعني نفيه وإلى الأبد خارج وطنه ، ويمنح المحتلين الغاصبين القادمين من وراء البحار ومن أصقاع الدنيا الحق في أرض الإسراء والمعراج .
إن الشعب الفلسطيني يمكن أن يقبل بالوطن البديل شرط أن يُبارك الله تعالى حوله في كتابه الكريم ، وأن يرثه عن آبائه وأجداده ، وأن يكون فيه المسجد الأقصى المبارك ، وأن يُسرى إليه برسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن يفتحه الفاروق عمر ويحرره الناصر صلاح الدين ، وأن يُروى ثراه بدماء المجاهدين الأخيار والشهداء الأبرار ، فهذا الوطن هو فلسطين التي لا بديل لها .
إن التمسك بحق العودة والتعويض ومقاومة فكرة التوطين فرض لازم لأنه الضمان الوحيد لإبقاء القضية الفلسطينية على قيد الحياة ، ولا تعتبر الجنسية الممنوحة للاجئين الفلسطينيين بديلاً عن هذا الحق الثابت .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت