أسطورة لم يكتبها الإغريق
تناول تقرير نشرته جريدة الأهرام المصرية قبل بضع سنوات سفر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وهو الذي كان يجوب الكرة الأرضية بحثاً عن دعم الحكومات والشعوب للقضية الفلسطينية، وخلص التقرير إلى أن أبا عمار في سفره المتواصل جاب الكرة الأرضية أربع مرات، قطع خلالها مئات الآلاف من الكيلومترات، لم يترك دولة كبيرة كانت أم صغيرة إلا وحط رحاله فيها، نسج من خلالها علاقات واسعة مع قادة وشعوب هذا العالم، كان أبو عمار يدرك بأن عليه أولاً أن يغير نظرة العالم إلى القضية الفلسطينية، من قضية إنسانية تتعلق باللاجئين ومتطلبات معيشتهم، إلى قضية ارض وشعب وهوية، سخر الكثير من حياته متنقلاً في أرجاء المعمورة، وزاوج بين النضال ضد المحتل والعمل الدبلوماسي، عرفه العالم ببزته العسكرية وكوفيته، حتى بات رمزاً للمقاتل من اجل الحرية، وتحولت كوفيته إلى راية تخفق في وجه الظلم والاستبداد والطغيان في العالم.
لم يكن يهدأ البتة، ولم يعرف للراحة طريقاً على مدار سنوات طويلة، حمل هموم وشجون شعبه وطاف بها يبحث عن دعم وتأييد دول العالم للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي الوقت ذاته لم يترك باباً إلا وطرقه عله يجد فيه ما يخفف من معاناة شعبه، آمن بأن الشعب الفلسطيني يحتاج لقيادة تعيش تفاصيل معاناته، كان بين المقاتلين ومع الفقراء والجرحى وأبناء الشهداء، لم يمنعه من التواجد بين أبناء شعبه تحذيرات البعض، كان دوماً يضرب بعرض الحائط كل هذه التخوفات، ويصر على مشاركة أبناء شعبه مهما بلغت ذروة الاحتقان والغضب، حدث ذلك يوم أن شارك في تشييع الشهيد هاني عابد، القيادي في حركة الجهاد الإسلامي الذي اغتالته قوات الاحتلال عند كلية العلوم والتكنولوجيا، وكان أول من تفقد الدمار الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية في مخيم جنين، حاول البعض أن يثنيه عن ذلك، إلا أنه أصر أن يكون بين سكان المخيم في محنتهم.
أثناء حصار المقاطعة من قبل قوات الاحتلال، كان يدرك أن الحصار يهدف لاغتياله سياسياً قبل أن تغتاله جسدياً، وفي حصاره هذا ورغم القصف المتواصل من قبل الآليات الإسرائيلية لمبنى المقاطعة، والطوق الذي فرضته قوات الاحتلال عليه، إلا أن همه الأساس كان منصباً على متابعة قضايا شعبه، فمن داخل الحصار كان يحث المسئولين على تخفيف معاناة الناس، أثناء إحدى التوغلات الإسرائيلية في مخيم خان يونس، واصل الرئيس "أبو عمار" من داخل المقاطعة المحاصرة ليله بنهاره يتابع العدوان، ويصدر أوامره بتوفير السكن لأصحاب المنازل المدمرة، ولم يتوقف عن ذلك إلا بعد أن اطمأن على توفير إيواء لهم.
حدث أن شاهد البعض من سكان قطاع غزة كيف تصرف الرئيس "أبو عمار" وهو عائد من رحلة خارج الوطن، يوم أن قرر قطعان المستوطنين قطع طريق صلاح الدين، وهو الطريق الوحيد آنذاك الذي يربط جنوب القطاع بشماله، لمنع الرئيس من الوصول إلى مدينة غزة، يومها ما أن اقترب موكب الرئيس من تجمع قطعان المستوطنين عند ما كان يعرف بمستوطنة "كفار داروم"، حتى ترجل من السيارة ممتشقاً سلاحه بيده، مما اجبر مرافقيه على فعل الشيء ذاته، فأدرك جيش الاحتلال أن عليه أن يجلي المستوطنين على وجه السرعة، وواصل موكب الرئيس مسيرته وسط فخر واعتزاز المواطنين برئيسهم.
لم يكن أبو عمار قائدا وزعيما ورئيساً لشعبه بقدر ما كان الأب الحنون لهم، فالأعباء الثقيلة على كاهله لم تمنعه من متابعة التفاصيل الدقيقة للكثير من المواطنين، ولم يدخر يوماً ما وسعاً في معالجة ومتابعة قضاياهم، كم كان عظيماً وهو يقبل قدم الجريح ويحضن ابن الشهيد ويواسي زوجة الأسير، لأجل كل ذلك بكته الأرض وحزن الشعب لفراقه، ورغم السنوات التي مضت على فراقه هو الأكثر حضوراً بيننا، نتلمس من مواقفه معاني الانتماء الحقيقي للأرض والشعب والهوية، ستبقى يا سيدي أسطورة لم يكتبها الإغريق، وعند شعبك وأحرار هذا العالم رمزاً للنضال من أجل الحرية والتصدي لكل أشكال الظلم والغطرسة والاستبداد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت