لنخجل قليلاً
عندما أحرق بو عزيزي نفسه أمام الملأ صفقنا له طويلاً، رغم أن ما أقدم عليه يتنافى مع ديننا الحنيف، حتى وإن أعطاه بعض العلماء صك الغفران، مستندين في فتواهم هذه بأن انتحاره أشعل ثورة أطاحت بالحاكم الظالم المستبد، لكن عندما سكب بو عزيزي البنزين على جسده واتبعه بعود ثقاب، هل كان يعتقد أنه بذلك يشعل ثورة ويفجر غضب شعبه في وجه السلطان ويطيح به وبجوقته؟، لتنتقل بعد ذلك عدواها في العديد من الدول العربية لتعيد رسم خارطتها من جديد، ماذا لو مر ما فعله بو عزيزي مرور الكرام، هل يمكن لنا وصف ما أقدم عليه بالعمل البطولي وأقمنا له النصب التذكاري تخليدا له؟، مؤكد أننا لم نكن لنفعل ذلك والدليل أن العديد من الشباب العربي أقدم بعد ذلك على الانتحار في مشهد مكرر لما فعله بو عزيزي دون أن يغير ذلك في الأمر شيئاً، ولم نسجل لهم ما قاموا به في صفحات البطولة والفداء.
لعل الوصف الذي ذهبنا إليه، في تسجيل عمل بو عزيزي بالعمل البطولي، شجع البعض على سلوك الطريق ذاته، حتى أننا في لحظة ما عشنا في الأراضي الفلسطينية هوس إحراق الذات، وحاولنا أن نجير بعض الحالات القليلة لما يخدم البعد الفصائلي المقيت، دون أن نتوقف ولو قليلاً، ونحمل أنفسنا جميعاً وزر حالة الإحباط واليأس التي يعيشها الشباب، الناجمة عن ارتفاع نسبة البطالة وتفاقم الفقر لدى شريحة واسعة من شعبنا، فعلى صفحات التواصل الاجتماعي احتلت أخبار الانتحار مساحة واسعة، والغالبية العظمى لم تكن حقيقية، وبات الجميع يخشى من أن تتحول هذه الإشاعات لكابوس يتخطى حرمتها ويجعل منها ظاهرة تؤرق المجتمع.
الغريب أننا رأينا لي عنق الحقيقة في بعض الأحداث العابرة، وبطريقة تنم على الكثير من الغرابة والدهشة، فأمام حادث ما عابر رأينا من يحاول أن يجعل منه انتحاراً، احتجاجاً على الوضع الاقتصادي المتردي، في محاولة لتحميل الآخر وزر ذلك،رغم ما في كل ذلك من إساءة للضحية، وبطبيعة الحال مثل هذا التغليف المقيت يحرك عجلة الإعلام لدينا للصيد في الماء العكر.
المؤكد أن الوضع الاقتصادي يزداد سوءاً، وأن معدل البطالة في ارتفاع مستمر، ونسبة الأسر الفلسطينية التي تعيش تحت خط الفقر في تزايد، والنتيجة الطبيعية لذلك ارتفاع منسوب الإحباط واليأس، وبخاصة لدى الجيل الشاب الذي بعد أن أكمل تعليمه الجامعي لم يجد فرصة عمل يقتات منها، والمؤكد أن الجميع يتحمل وزر ذلك، فالحال الذي وصلنا إليه لا يتعلق ببقعة جغرافية من الوطن دون الأخرى، ولا يوجد داخل الوطن "سنغافورة" كي ينتقل الشباب إليها، صحيح أن هنالك تفاوت قليلاً بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن لو أخذنا بعين الاعتبار قيمة المتطلبات الحياتية لتساوى الأمر بينهما.
ما يعنينا في هذا الحديث المستوى المتدني الذي وصلنا إليه في تسخير المصائب لما يخدم المصالح الفئوية الضيقة، حتى وإن كان ذلك يمس القيم الأساسية في المجتمع، ويشوه كثيراً صورة الوطن الجميل الذي لطالما رسمناه جميعاً في خيالنا، المصيبة والطامة الكبرى أن العزف على وتر المآسي بات يستهوي الكثير، دون أن يلتقط هؤلاء أنفاسهم ويمعنوا التفكير في المسببات الحقيقة لما نحن فيه، ومدى تحمل كل منا لاستمرار الوضع على حاله، ما أجزم به أن مجتمعنا الفلسطيني قادر على تحمل المآسي الناجمة عن الاحتلال وعربدته، ويمتلك القدرة على الصمود والثبات مهما علت وتيرة إرهاب الاحتلال، ولكن المجتمع يئن من حالة الانقسام، حيث ضعفت بسببه الكثير من القيم والأخلاق التي لطالما عززت لدينا معاني الانتماء للوطن كل الوطن، وجعلت منا يوماً ما مجتمعاً متماسكاً صلباً أذهلنا بتكاتفنا العالم بأسره، ونحن ننظر لحالنا اليوم، الأجدر بنا أن نخجل ولو قليلاً من أنفسنا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت