ما أعز من الولد إلا ولد الولد

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


مقولة درج عليها أسلافنا من القدم وما زالت تتردد الى يومنا هذا، ربما بدت تكتيكياً في ظواهرها صحيحة، ولكنها استراتيجياً في بواطنها غير دقيقة بالمعنى الحقيقي لها، لا بل نقول أكثر من ذلك في محصلتها غيرصحيحة. حيث تبدو في بعض المواضع صحيحة وفي غالبية المواضع غير صحيحة، مما يجعل المحصلة النهائية تميل الى أنها غير صحيحة، وتحتاج الى تصحيح لتتواءم مع الواقع ، ولكن لماذا؟
أولاً: معزة ولد الولد ناتجة عن معزة الولد، فمعزة الولد هي الأساس والباعث لأشعة ومصدر الطاقة المولدة لمعزة ولد الولد، ولا يمكن أن يتفوق الفرع في قيمته وتأثيره على الأصل. فالفرع يستمد وجوده من الأصل. فغصن الشجرة لا يعيش دون جذعها وجذورها. وموت الجذع والجذر يميت الغصن تلقائياً وحتمياً.
ثانياً: ولد الولد يمكن تعويضه إن استخاره الله اليه، وفي هذه المرحلة من العمر التي يمر بها الجد (صاحب المقولة) فإنه من الصعوبة بمكان وزمان عليه أن يعوض الولد إن افتكره الله. ولا يمكن أن يتفوق حزنه على وفاة حفيده على حزنه على وفاة ولده الذي هو من ينتج له الأحفاد. وإن مات الولد يشتعل حب الجد للحفيد لأنه يرى فيه إمتداده الزمني وتعويضاً عن خسارة الولد، لذلك فإن مصدر اشتعال الحب للحفيد بعد فقدان الإبن هو معزة الإبن الفقيد، حيث يرى الجد صورة إبنه في حفيده مما يعوضه جزئياً عن فقدان الإبن. وهنا نتكلم بالعموميات وليس بالحالات الفردية الشاذة عن القانون والفطرة. فمبررات الحزن على الولد المتوفى أكثر من الحزن على الحفيد المتوفى تنطلق من إغلاق باب الإنتاج للأحفاد، ولكن وفاة الحفيد تبقي الباب مفتوحاً لإنتاج الأحفاد. فيعلل الجد نفسه بالتعويض، مما يقوي صبره على الحدث، ويدفعه للنسيان بسرعة تفوق سرعة نسيان وفاة الإبن.
ولكن لماذا استنتج أسلافنا هذه المقولة التي كانت تتواءم مع مستواهم الثقافي وتحصيلهم العلمي الضحل في عصور الفقر والجهل، وبدت هذه المقولة الظاهرية، قشرية سطحية ووليدة للبداهة، وبعيدة عن العمق والتحليل والدقة، وقريبة من السذاجة المحببة للنفس؟
صحيح أن مظاهر وطقوس الحب التي يبديها الجد لحفيده تفوق مظاهر وطقوس الحب التي كان يبديها لإبنه يوم أن كان في عمر حفيده، فتربية الأبناء صعبة، فيها المتعة أحياناً والقلق والتوتر أحياناً أخرى، وفيها السعادة تارة والشقاء تارة أخرى، وفيها الأمل والألم، وفيها المشاعر متواترة بين الفرح والحزن، وبين السعادة والشقاء، وبين الأمل والألم. لأنها مسئولية كبرى، وهي نواة التنمية المجتمعية، ومصدر الأمن والرخاء. وفيها مسئولية هائلة على عاتق الرعاة. "كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته"، فهذه المقولة عن سيد البشرية مدعاة لإثارة الخوف والقلق من الفشل في تطبيقها، فيعيش الأب أو الأم مراحل من القلق النفسي تحسباً من الوقوع في أخطاء تربوية تنتج أجيالاً تائهة ومجهولة المصير.
إذن تربية الإبن تنطوي على مسئولية ثقيلة ودقيقة ومتشعبة تدعو للقلق والخوف والريبة والرجاء والأمنيات، وفيها لحظات من الفرح والسعادة ولحظات من الشقاء والألم، يكون فيها الأب أو الأم مسئولاً مسئولية أدبية ومعنوية وفعلية وميدانية مباشرة عن الولد. يتألمون لألمه، ويفرحون لفرحه. يستمتعون به تارة ويشقون به تارة أخرى. وكل هذه التباينات بالمشاعر ناتجة عن الحب الملتهب للولد والحرص عليه ليكون ناجحاً في حياته، لكي يعيشوا معه هذا النجاح ويستمتعوا به.
إذن علاقة الأب بالإبن = علاقة طويلة المدى يكتنفها المسئولية الثقيلة المباشرة المشوبة بالقلق والتوتر والأمل والإرتباط العضوي المباشر فالولد بمثابة الكبد للإبن كما قال الشاعر:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
إذ يعيش الأب مع إبنه كافة المواسم (ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاءً). يعيش معه الربيع يوم ولادته وطفولته ويعيش معه الصيف يوم شبابه ونجاحه ويعيش معه الخريف قلقاً على مصيره، ويعيش معه الشتاء يوم تعثره ويوم مرضه. فيتألم لألمه ويفرح لفرحه. والحياة مكابدة، فيعيش معه مكابدة الحياة.
في الجانب الآخر نأتي الى علاقة الجد بالحفيد:
يعيش الجد مع حفيده فترة الخريف والشتاء في أطول مدىً لها، وهي قصيرة جداً مقارنة بفترة عيش الأب مع الإبن، وتتناسب قوة العلاقة الإنسانية تناسباً طردياً مع زمنها. فيدرك الجد أنه لن يرى نجاح حفيده ولن يعيش معه فترات عمره ، ولن يشاركه بلحظات الإستمتاع بنجاحه، فالجد يستقبل الحفيد في خريف العمر، ويدرك قصر العلاقة التي تربطه مع حفيده، وفي تلك المرحلة التي يعيشها الجد يكون بحاجة الى ما يدخل البهجة والتسلية الى نفسه، حيث يتقاعد من عمله ويصبح وقته بحاجة الى ملء فراغه الطويل، فيتخذ من الحفيد صديقاً حميماً مسلياً له، ومستمتعاً به، تربطه به رابطة عضوية غير مباشرة آتية من إبنه فلذة كبده، وهو مسئولٌ عنه مسئولية غير مباشرة تنحصر في طفولته وربما تصل الى شبابه، ومقرونة بالنصح والإرشاد. فلا يشوب تلك العلاقة بينهما القلق والخوف والتوتر على المصير والمستقبل. فهي علاقة لا تخلو من المسئولية، ولكنها مسئولية خفيفة في وزنها لا تقارن بمسئولية الأب على الإبن. وينقصها الحرص الشديد على مستقبلها، مما يؤدي في أحيان كثيرة الى تدخل الجد في تربية الحفيد تدخلاً ربما يضر بتربيتة ، فيمنحه الدلال الزائد عن حده والحرية في الممارسات الطفولية أكثر من والديه، ويتدخل لمنع العقاب عنه من والديه لأنه يريده فرحاً دائماً لينمحه جزءاً من فرحته، لأن علاقته به علاقة خالية من المسئولية المباشرة. فلا يمارس عليه أصول التربية، وإنما يمارس معه طقوس الصداقة التي تربطها الحاجة العمرية لكلا الطرفين، فيداعبه كأنه طفل مثله ليستمتعا معاً، طرف بشيخوخته الباحثة عن الإستمتاع والبهجة لقتل الفراغ وطرف بطفولته اللاهية المتناهية. فيتعلق الجد بالحفيد أكثر من تعلقه بإبنه في تلك المرحلة من العمر.
نستنتج أن علاقة الجد بالحفيد أقرب في ماهيتها الى علاقة الصداقة المبنية على المصالح منها الى علاقة الأبوة العضوية المباشرة.
إذن علاقة الجد بالحفيد = علاقة قصيرة المدى مشوبة بالمسئولية الخفيفة غير المباشرة وتربطها روابط الصداقة المبنية على المصالح والإستمتاع بالوقت وقتل الفراغ وهي غير مشوبة بالتوتر والقلق على المستقبل ومصحوبة بالإستمتاع.
لهذا وجب تصحيح المقولة لتصبح "ما أمتع من الولد إلاّ ولد الولد". أو "معزة الحفيد من معزة الولد".

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت