مواجهة العدوان على قطاع غزة بالمصالحة والوحدة الوطنية

بقلم: تيسير التميمي

هذا هو الإسلام
مواجهة العدوان على قطاع غزة بالمصالحة والوحدة الوطنية


يقول الله تعالى { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } آل عمران 169 .
إن العدوان الإسرائيلي الغاشم المستمر على قطاع غزة وقصفها بالطائرات ، واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً الذي أدى إلى ارتقاء الشهداء العظام هو جريمة حرب ضد الإنسانية توجب تقديم مرتكبيها وكل من أسهم فيها إلى محكمة الجنايات الدولية ، فهي ترتكب على مرآى ومسمع من العالم الذي لا يحرك ساكناً ، بل لولا الانحياز الكامل من الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل والقوى الأخرى الداعمة لها لما تجرأت على تنفيذ هذه الجرائم النكراء .
إن فلسطين غالية ولا يضحي في سبيلها إلا أبناؤها الغوالي ، وعزاؤنا أنهم ضحوا من أجل أعدل قضية ، وارتقوا إلى بارئهم في عليين مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، ودماء الشهداء الأبرار تستصرخ أبناء الشعب الفلسطيني ليتوحدوا ويكونوا على قلب رجل واحد لمواجهة هذه الجرائم التي تستهدف الشعب الفلسطيني وهويته ووجوده على أرضه ، فقنابل الطائرات الإسرائيلية وصواريخه لا تفرق بين فصيل وآخر ، وهذا الخطر الداهم يقتضي شعبنا الفلسطيني الواحد أن يجتمع ويتوحد ويرص صفوفه ، قال تعالى { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } الأنفال 46 .
يتعرض صاحب القضية وهو يشق طريقه مناضلاً للوصول إلى هدفه المنشود للمحن ؛ يستميت من خلالها الأعداء في القضاء على من يحمل قضايا أمته ووطنه ؛ ويرفعون العصا على رؤوس الأمة كي تنثني وتنحني وتتخلى عن مبادئها وقيمها العليا ، لكن هيهات لأهل العزم أن يتخاذلوا أمام القهر أو يخنعوا أمام التعذيب .
والمحنة تثمر التحدي الذي يثبت قدرة من ربطوا مصيرهم بالعمل لقضاياهم على تجاوزها ؛ وهي التربية الواقعية التي تصقل الشخصية وتمتحن الصبر ؛ لذا فهي دليل على صدق كفاحهم في سبيلها وإيمانهم بها ، فإن القضية تصبح عزيزة عند أصحابها بقدر ما قدموا لها من تضحيات ؛ أما إن كانت رخيصة فسيهون عليهم التنازل عنها ولن يحتملوا لأجلها أدنى الشدائد ، بل إنها بذلك تعظُمُ في عيون غيرهم وربما تحولوا إلى أنصار أو أتباع ؛ وهكذا تترسخ القضية وتبقى خالدة لا تموت إذا قدمت التضحيات العظيمة في سبيلها ، وبالأخص إذا كان قادتها ممن يسابقون في بذل نفوسهم رخيصة ؛ فهذا من أهم عوامل انتشارها وانتصارها ، فإن كل شهيد يسقط يزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة ويحرك ضمير الأمة لتدافع مخلصة عن مبادئها وقضاياها .
والجنة ثمنها غال قال تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } البقرة 214 . والمحنة ضرورية أحياناً ؛ فمن يدّعي الإيمان يتعرض للاختبار حتى يُعرف صدقه ودرجة إيمانه قال تعالى { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } العنكبوت 2 ، فالشدائد هي التي تظهر معادن الناس وتنقّي صفوفهم ؛ قال تعالى { ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } العنكبوت 3 ، وهذا ما كان في غزوة أحد ؛ فكان المصاب عظيماً أليماً ، لكنه كشف الولاء الحقيقي للمؤمنين وأظهر أعداءهم ومن اخترق جماعتهم قبل أن يكشفهم القرآن الكريم ، فالمواقف تترجم ما في القلوب , قال تعالى { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } آل عمران 179 . فلحكمة ربانية حلّت المحنة بالمؤمنين حتى يظهر الأصيل من الدخيل ويعرف المخلص من المغرض ؛ وما كان بمقدور المؤمنين الكشف عن ذلك ، فالله سبحانه يبتلي عباده المؤمنين بناء على قوة إيمانهم ؛ فقد سئل صلى الله عليه وسلم { أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه } رواه الترمذي .
ومما يطمئن القلب ويخفف الألم أن طريق المحن سلكه رسل الله جميعاً ؛ قال تعالى { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } الأنعام 34 ، فكلهم تعرضوا للابتلاء مع تفاوتهم فيه فكان منهم أولوا العزم قال تعالى { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } الأحقاف 35 ، فهم أولى من نتمثل بهم في الصبر على البلاء بكل صوره ، فقد لاقوا منه ما رفع منزلتهم عند ربهم جل وعلا فجعلهم قدوة من بعدهم .
وتتنوع صور الابتلاء حسب إبداعات الساديين من القادة ، منها أن ترى الباطل يتمكّن ويمتلك أسباب القوة والهيمنة في الوقت الذي ترى فيه أهل الحق يعانون التضييق والمطاردة ؛ فهذه جولة الباطل التي لا تدوم مهما طالت قال تعالى { لا يغرنك تقلب الذين طغوا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } آل عمران 196-197 . ومن صور البلاء الحاضرة اليوم ألا تجد النصير الذي يساندك ولا القوة التي ترد عنك الطغيان ؛ وألا تجد غير اللسان العاجز حتى عن الاستنكار فيغدو صمته المريب أعلى درجات الشجاعة . وقد يكون الابتلاء بالتعذيب أو التجويع ومصادرة الأموال ، أو بالأهل والأحبة تراهم يتعرضون للأذى والاعتقال وهدم البيوت فلا تملك حمايتهم . وقد تبتلى الأمة بالأذى والدعاية المشوهة قال تعالى { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } آل عمران 186 .
أما الاغتيال والتصفية الجسدية فهي الحل الأخير عندما يلتحم المرء بقضيته ؛ فيرتفع خطره على عدوه إلى درجة حرجة ولا يجدي معه أي نوع من التهديد أو الإغراء ، إنها الشهادة التي إذا نالها هؤلاء الأبطال الأماجد فهي عندهم أرفع وسام من الله عز وجل . والسجن محنة كبرى وأداة إرهاب ؛ لأنه ابتلاء في الحرية وحرمان من التعبير وعقوبة تأديبية للسجين ليتوقف عن متابعة نشاطه بأخذ تعهدات قاسية عليه حتى يقتنع بأن مبدأه مصدر شقاء له ، وما علم العدو أن السجن باب للأخوّة وملتقى للأحرار ، وأن الحبس الانفرادي هو خلوة مع الله .
إن الأمة لا تخاف المحنة ؛ بل تستبشر بها لأن ثباتها قوة يصغُرُ عندها ما تلاقيه من قمع وكيد ، وقد هيأ رسول الله أصحابه لهذه التعبئة النفسية ؛ قال خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه { شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون } رواه البخاري .
إن العزم والعزيمة والصبر والمصابرة هي السبيل إلى بناء الصفوة ممن يحملون قضايا الأمة ويبذلون لأجلها كل غال عزيز ؛ فهم الذين يرسمون للأجيال القادمة طريق المستقبل ، لذا فالمؤمن الحق يوقن أن لا مفر له من الأزمات والنائبات ، فهي العاصمة له من التخبط في ظلمات الفتن وليل المحن ، وهي الحامية له من الذهول عند الابتلاءات ، إذا استنارت روحه بضياء الصبر ، وتحرر فؤاده من رهبة القنوط والخوف ، وإذا أخذ أهبته لئلاَّ تباغته النوازل على غفلة منه ، فمن علم أن الله تعالى سيبدله بكل ذلك رضاً نفسياً وسكوناً قلبياً فقد صح إيمانه وخلص قلبه ؛ إذ لا يمكن للإيمان أن يجتمع مع الاعتراض على الله والسخط على أقداره .
فالله سبحانه لم يقدر المحنة لتهلك المؤمن , بل لتمتحن صبره وإيمانه ، وما كتب سبحانه فتنة الابتلاء إلاَّ لتميز المؤمنين وتنقي صدورهم وصفوفهم ، فمراتب الكمال متعلقة بالصبر ، وهو سبحانه يضاعف الأجر والثواب لعبده على صبره ورضاه بقدره وإخباته لابتلاء ربه ، ولا يحسبن المبتلى ما دام طائعاً عابداً أن ربه عز وجل غاضب عليه ، قال صلى الله عليه وسلم { إذا أحب الله قوماً ابتلاهم , فمن رضي فله الرضا , ومن سخط فله السخط } رواه الترمذي .
أما من جزع فله الجزع ، قال صلى الله عليه وسلم { ما يصيب المسلم من وصبٍ ولا نصبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّرّ الله بها من خطاياه } رواه البخاري . والجزع هو قلة الصبر وضعف الهمة عن الاحتمال ، وإكثار الشكوى والتظلم من البأساء والضراء .
والصبر من صفات الرجولة الناضجة والبطولة الفارعة ، فإن عظائم الحياة وأثقالها لا يحملها صغار النفوس وضعاف الهمم ، فعلى قدر العزم تأتي العزائم ، ولا ينهض بالمهام الكبرى إلاَّ العمالقة ، لذا كان الصبر من معالم العظمة ، ومن دلائل هيمنة النفس واستعلائها على الخوار أو الانهيار أمام الأقدار ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } البقرة 153-157 .
والرضا قرين الصبر ؛ أما الصبر فهو فرض , وأما الرضا فهو فضل , فإذا اجتمع الصبر والرضا اجتمع مع التكفير الثواب ؛ لأن المصائب كفارات للذنوب قطعاً ، قال صلى الله عليه وسلم { ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة } رواه الترمذي . ويحسن بالمؤمن أن يرتقي إلى ما هو أعلى منزلة من الصبر والرضا , إنه الشكر ، فيرى المحنة منحة ، وأن الله جل شأنه إذا ابتلى عبده لم يرد هلاكه , وإنما أراد إما تمحيص ذنوبه , وإما تبليغه منزلة لم يبلغها بعمله , لأن من اشتد خوفه بكى ، ومن اشتدت مصيبته دعا , وهذا الوقت عصيب ، وهو ساعة إجابة وساعة صدق في الطلب وما دعا صادق إلا أجيب ، قال تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } البقرة 186 .
وأمام ما يجري لشعبنا الفلسطيني الصابر المصابر المرابط في أرضه وفوق تراب وطنه ، الثابت في مواجهة الاحتلال وممارساته القمعية التي تستهدف وجوده وقضيته وهويته ، أمام ذلك وغيره فإننا نرى أن أقوى الأسلحة لمواجهة هذا العدوان يكون بنبذ الفرقة وإغلاق ملف الانقسام إلى الأبد وتحقيق المصالحة والوحدة الوطنية الشاملة ، فهي الصخرة الصلبة التي تتحطم عليها كل المؤامرات التي تحاك ضد هذا الشعب ، قال تعالى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } آل عمران 103 .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت