ولفهم هذه السلوك الخطير والمتكرر عبر التاريخ من خلال المجازر التي إرتكبتها الدولة الصهيونية في المنطقة، وبعيداً عن المصالح والتجاذبات السياسية المختلفة وتحليل مراكز القوى في الصراع وآفاق الحلّ وإرهاصات الوضع الداخلي الفلسطيني وتحليلات المحلليين السياسيين والعسكرين لكل مجريات الأمور في العدوان على غزة، بعيداً عن كل ذلك لابد أن هناك سرّاً في شخصية المعتدي وفي بنيانه النفسي والإيدولوجي يفسّر الضرورة اللانسانية التي يقوم بها هؤلاء في فترات متقاربة نسبياً إزاء العرب بشكل عام والفلسطينين بشكل خاص، وهذه المرة الغزيين بشكل خاص جداً واستثنائي في تاريخ الصراع.
فما هو سرّ هذا العدوان والبرود الإنساني في قلب وعقل المعتدي وما هو جوهر بنيتة النفسية والشخصية التي تحمله على القيام بمثل هذه المجازر؟ وللتعرف على الإجابة لا بد من تحمل عناء قراءه هذه المقالة:
لقد مرّ اليهود عبر التاريخ الإنساني بجملة من الإحداث التاريخية الهامة في حياتهم أثرت تأثيراً بالغاً في بنية شخصيتهم؛ فمن ضيم فرعون إلى تنكيل الآشوريين، وكذلك السبي البابلي وصولاً إلى النازين ومذابح "الهلوكوست"، حيث ساهمت هذه الأحداث في إيجاد شخصية يهودية ضعيفة مستعبدة مستحقرة من الأمم؛ مما دفع المفكرين الصهاينة وخاصة أؤلئك الذين يعتقدون بنظرية داروين بالتطور الطبيعي إلى تطبيق هذه النظرية على حياة اليهود، فقد فسروا التيه الذي حدث في الصحراء لهم على أنه تيه من أجل الإختيار الطبيعيـي؛ حيث أن التيه هنا لا يأتي كما وصفة القرآن الكريم على أنه عقاب لفسادهم الأخلاقي في الأرض وعصيانهم، بل جاء من أجل الإختيار الطبيعي حيث أراد الرب من خلال هذا التية أن يُصفّيهم من الضعفاء، ففي التيه يهلك الضعفاء ويبقى الأقوياء والأصحاء وبالتالي هم مَنْ يستحقون الدخول لأرض كنعان، كما أنهم ذهبوا إلى أن التيه ما هو إلا إعدادٌ روحي لبني إسرائيل قبل دخول أرض كنعان وبالتالي ترسيخٌ لفكرة النخبة أو ما يعرف بـ"شعب الله المختار" حيث الربط الواضح ما بين حياة اليهود والتية وبالتالي فكرة شعب الله المختار الصحيح القوي أو السوبرمان الذي لا يقهر. وقد عملت الحركة الصهيونية على تطبيق نفس الفكرة السابقة على ما جرى لليهود على أيدى النازية؛ فعملت على تجريد اليهود من إنسانيتهم مستغلة كلّ ظروف القهر والعزلة الأيدولوجية والدينية التي عاشها اليهود عبر التاريخ الإنساني، وعملت على خداع الإنسانية برمتها وجعلها أكثر تعاطفاً وأكثر شعوراً بعقدة الذنب اتجاه مأسي اليهود التي حلّت بهم على أيدي النازية مما ساعد في إعادة التاريخ مرة أخرى فما حدث في مرحلة التيه والدخول لأرض كنعان حدث بالفعل مع اليهود الذين كانوا عبيداً في الجيتوات في أوربا وأصبحوا الآن الشعب المختار الذي تحوّل من مرحلة العبودية والتبعية والإنعزال في الجيتو إلى الغزاة والمحتلين المُطهريين لفلسطين.
كما عززت الحركة الصهيونية مشاعر الإنتقام والثأر والقتل عند اليهود بشكل مُبرمج وخطير وقد ساهم الأدب الصهيوني في تبني شعارات خطيرة في هذا الإتجاه، ويظهر ذلك واضحاً في أشعار العديد أذكر منهم كل من شاؤول تشرنحوفسكي، وكذلك باروخ المغنتسي الذي عبر عن ذلك في العديد من قصائده ولعلّ الأبيات أدناه توضح مستوى التطرف والعدوانية الكامنه في قرار نفسه:
في كل ليلة نصعد من قبورنا حيث دفنا
لنشرب دماء هؤلاء الجزارين حتى تسكر أرواحنا
نرضع من أنها الدم، رشفة رشفة قطرة قطرة
نسكر من الحزن ونسكر من الآهات حتى تراهم عيناي يرتجفون
هذا وساهمت التوراة في ذلك بشكل مباشر، فهناك العديد من الإشارات الخفية وتلك الواضحة في النصّ التوراتي تؤكّد على ضرورة الإنتقام وتعزيز روح الثأر وسنّ السيوف وجعلها جاهزة دوماً للإنقاض على الفريسة التي تلوح في الأفق.
إنّ جُلّ ما ذكر آنفاً يقودنا إلى المحور الرئيس في هذة المقالة، وهو الشخصية اليهودية حيث أنّ هؤلاء اليهود الذين عاشوا مرحلة العبودية والذلّ والإهانة في مراحل مختلفة من التاريخ، يفتقدون الثقة بأنفسهم حيث صورة الذات المشوهه، وتتميز شخصياتهم بالإنطوائية والإنعزالية وعدم الإستقرار الإنفعالي والشك والتوتر الدائم، وتظهر عدم ثقتهم بأنفسهم عن طريق الإدراك اللاشعوري، مما يعزز لديهم ظهوراً واضحاً لميكانزمات دفاع نفسية عالية تظهر واضحة لدى الدولة الإسرائيلة شعباً وحكومة مثل الغطرسة والإسقاط، وتأتي ردود الأفعال هذه بشكل لا شعوري لإخفاء هواجسهم الداخلية حول الآخرين، حيث أنّ الشعور بعدم الثقة بالنفس يظلّ قائماً في أعماقهم.
لذا نجد أن هذه الشخصية تسعى دوماً لتأكيد ذاتها بكل الواسائل المتاحة شرعية كانت أم لا شرعية، ولن تقبل بفكرة العبودية مرّة أخرى أو تقبل بإهتزاز الصورة الزائفة للشخصية اليهودية، وهذا يفسّر بشكل واضح اعتدائاتهم على الشعوب الذين يروا فيها أنها أقلّ منهم قوة وجاهزية فيقومون بإسقاط كلّ مشاعر القسوة والانتقام والثأر الكامن بداخلهم على الآخرين، حيث أن هذه الشخصية تسعى للتخلص من الإرث المتعلق بالأنا التاريخية الخاصة بهم التي علقت بها مشاعر الذلّ والاستحقار والاستخفاف، لتؤكّد أنها نازية لها ضحاياها ولها مذابحها، وهذا ما يعرفه علم النفس بـ [ التوحّد في المعتدى]
ويعتبر رواد علم النفس أن التجربة النازية ضدّ اليهود وأسرِهم والتنكيل بهم، شكلّت صدمةً نفسية لهم شجعت آلية توحّد اليهود بالجلاد النازي، وهذا يعلّل بوضوح ذلك الإنعكاس الكامل من حالة الإستكانة والذل والتقوقع في الحارات اليهودية في أوربا ( الجيتوات)، وتحولها مباشرة إلى النقيض فمن الذل الإستكانه إلى العنف والشراسة والإرهاب والتنكيل تجاه العرب في حروبهم ومجازرهم في القرى الفلسطينية واللبنانية وأخيراً مجاز غزة التي تغتال الحياة والأطفال والنساء والشيوخ في أبشع صورة ممكن أن يتصورها أى إنسان.
والرغبة الداخلية لدي اليهود للتوحد في المعتدي نتجت عبر جرح صورة الذات لديهم وهو دليل واضح على تفكّك هذه الشخصية ومرضيتهاـ وقد يدفعني هذا للقول أنها شخصية سيكوباتية ولكن سيكوباتيتة تلك الشخصية غير مرتبطة البته بمجتمعهم بقدر ما هي مرتبطة بمجتمعات أخرى، فهم على أجمل القول ضدّ الحياة لغيرهم. وقد ذهب بعض المحلليين النفسانين إلى أن الشخصية اليهودية آخذة في تطوير نمط بارانويي خاصّ، هذا وأكد مينكوفيسكي في دراسة أجراها على عينة من الناجيين من الأسر النازي أن هؤلاء الإشخاص إذا ما أتيحت لهم الفرصة في ممارسة العدوانية ضد الآخرين فهم سوف يذهبون إلى أعلى مستوى من العدوانية والتنكيل، ولعلّه من الجدير بالذكر أن هذا التفكك في الشخصية أخذ شكله الجمعي في المجتمع اليهودي الرسمي وغير الرسمي، كما أنّ المعاهدات والاتفاقيات التي تعكف إسرائيل على عقدها دولياً وإقليماً ما هي إلا شكلٌ من أشكال إعادة التنظيم وإعادة الترتيب النوعي والجديد للتوحد في المعتدي أي ما هي إلا مجرد إعادة تغيير في اتجاه ونوع العدوان وشكله وليس تخلياً عنه، مما ما يُفسّر لجوء إسرائيل إلى المعارك الدبلوماسية التي ما هى إلا شكلٌ من أشكال الحفاظ على النفس كما هى والحفاظ على بنيتها النفسية التي تتميز بالإعتداء والنازية والإرهاب لتبقى صورة الجلاد قائمة في الذهنية اليهودية، ولتبقى هذه الصورة قائمة لا بدّ من ضحايا ولا ضير إن كانوا من الأطفال والنساء والمدنيين العزل في غزة هاشم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت