البحث عن الدلائل
ظروف وفاة ياسر عرفات ما زالت لغزا تحاول لجنة التحقيق الفلسطينية برئاسة الأخ توفيق الطيراوي فك طلاسمه، الشيء المؤكد أن هنالك شبه إجماع على أن القائد "أبو عمار" اغتالته المخابرات الإسرائيلية بأوامر من قيادة الاحتلال السياسية، وبالتحديد من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "أريئيل شارون"، ولكن يبقى السؤال كيف ومتى تم ذلك؟، والأهم من ذلك أننا بحاجة إلى البينات والدلائل التي تثبت تورط حكومة الاحتلال في هذه الجريمة.
حاولت حكومة الاحتلال مراراً وتكراراً اغتيال الزعيم ياسر عرفات، بدأت بالتفكير بذلك عام 1964، وكان اغتياله أيضاً من الأهداف التي وضعتها حكومة الاحتلال لمعركة الكرامة، وعندما فشلت في ذلك قيل يومها "تبخر قنديل البحر"، لكن أكثر المحاولات غرابة تلك التي حاولت من خلاها أن تعيد حكاية فيلم "عميل من منشوريا"، وهو الفيلم الذي يحكي عن أسير حرب أمريكي جرى تنويمه مغناطيسياً وتم إرساله لاغتيال الرئيس الأمريكي، واستعانت المخابرات الإسرائيلية يومها بمعتقل فلسطيني من أبناء حركة فتح، وأخضعته لعملية معقدة من جلسات التنويم المغناطيسي، وأرسلته عبر نهر الأردن لتنفيذ مهمته في اغتيال ياسر عرفات، وما أن وصل الشاب إلى الأردن حتى قام بسرد ما أقدمت عليه المخابرات الإسرائيلية أمام القيادة الفلسطينية، وبعدها تكررت محاولات اغتياله مرات عدة دون أن تتمكن من الوصول إليه.
المؤكد أن شارون كان يحقد شخصياً على أبي عمار، وصرح في أكثر من مناسبة بأن له حساب طويل معه، وقبل قراره بمحاصرة المقاطعة، وبعد لقاء جمعه بالرئيس الأمريكي حينها "جورج بوش"، خرج يقول لمن حوله أخذت الضوء الأخضر، وبدأ حصار المقاطعة مع تحميل ياسر عرفات مسؤولية التفجيرات التي شهدتها المدن الإسرائيلية، ونظراً للمكانة الدولية التي يتمتع بها ياسر عرفات، كان من الصعب على حكومة الاحتلال اغتياله أمام مرمى ومسمع العالم، وبالتالي لا بد من تنفيذ ذلك دون ترك أي دلائل تشير بمسؤوليتهم عن ذلك، فجأة تدهورت صحة الرئيس وأطلقت معها حكومة الاحتلال سيل من الإشاعات، فتارة أن الرئيس يعاني من سرطان الدم، وأخرى أنه مصاب بفيروس الايدز، ولم يتمكن الطاقم الطبي في مستشفى بيرسي بفرنسا تحديد السبب في النقص الحاد للصفائح الدموية لدى الرئيس إلا أنه دحض الروايات الإسرائيلية، لكن ما تجدر الإشارة إليه أن بعد يومين من وصول الرئيس إلى مستشفى بيرسي تحدثت التقارير عن تحسن ملموس في صحة الرئيس، وعلى أثر ذلك خرج رئيس جهاز الشين بيت، بعد اجتماع "الكابينيت الإسرائيلي"، ليؤكد أن لا مجال لشفاء ياسر عرفات، المهم أن تقرير الطاقم الطبي الفرنسي والذي فاق الخمسمائة صفحة لم يحدد السبب الذي أدى لهذه التغيرات الصحية السريعة.
على مدار سنوات من العمل لم يتمكن الطاقم الفلسطيني من تحديد سبب الوفاة، وإن كانت المؤشرات تدل على تسمم الرئيس، وجاء تقرير قناة الجزيرة القطرية الذي تحدث عن اكتشاف كمية غير طبيعية من مادة البولونيوم المشع في أمتعة ياسر عرفات، طبقاً لتحليل أجراه معهد في لوزان بسويسرا، دون أن توضح القناة من الذي طلب من المعهد إجراء الفحص؟، وكيف ومتى ومن أين حصل المعهد على أمتعة الرئيس؟، ومادة البولونيوم المشع هي ذات المادة التي اغتيل بها المعارض الروسي في لندن عام 2006، لكن تقرير الجزيرة دفع بفكرة أخذ عينات من رفاته إلى السطح، واستعانت لجنة التحقيق الفلسطينية بقضاة فرنسيين للمشاركة في ذلك.
الجدير بالذكر أن السلطة الفلسطينية طالبت مراراً بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في وفاة الرئيس "أبو عمار"، أسوة باللجنة التي تم تشكيلها لرئيس وزراء لبنان السابق "رفيق الحريري"، ولم يستجب المجتمع الدولي لذلك، وبالتالي هل لجنة التحقيق ذاهبة لأخذ العينات وإجراء التحاليل المتعلقة بمادة البولونيوم المشع أم أن التحاليل ستشمل ما هو أبعد ذلك؟، وهنا تجدر الإشارة إلى أن المادة السمية التي عادة ما تستخدم من قبل أجهزة المخابرات لا يتضمنها أرشيف المواد السمية في الحياة المدنية، وبالتالي من المفيد أن نستعين بدولة صديقة تتمتع أجهزة مخابراتها بخبرة في هذا المجال كي تقوم بالتحاليل اللازمة للعينة بجانب ما يقوم به القضاة الفرنسيين.
التحقيق في ظروف وفاة الرئيس "أبو عمار" يتسم بالطابع الأمني أكثر منه الجنائي المتعارف عليه في البحث عن الدلائل، ولعل السلطة الفلسطينية أحسنت التقدير في تكليف الأخ توفيق الطيراوي "رئيس جهاز المخابرات السابق" لتولي رئاسة لجنة التحقيق، فالتحقيق كي يصل إلى نتيجة مقنعة بحاجة لمعلومات أمنية بجانب المعلومات الطبية التي قد تخرج بها نتائج التحاليل، إن كشف ملابسات اغتيال الرئيس الفلسطيني "ياسر عرفات" تهم كل مواطن فلسطيني، لن ننتظر حكومة الاحتلال أن تسمح بنشر المتعلق بها كما فعلت مؤخراً فيما يتعلق بعملية اغتيال "ابو جهاد"، ولا بد أن نصل نحن إلى تفاصيل جريمة الاغتيال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت