هذا ليس برمان

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

هذا ليس برمان ...؟!

نص بقلم الكاتب والأديب / أحمد ابراهيم الحاج

تقديم:
يسرني أن أقدم لهذا النص الإبداعي الجديد ( هذا ليس برمان ...؟! ) للكاتب والأديب الفلسطيني المبدع / أحمد ابراهيم الحاج / لما تضمنه من تصوير وإبداع في نقل واقع الصبر والصمود والتضحية التي يتسم بها شعبنا الفلسطيني في نص أدبي رائع يبرز مدى تعقيد وبشاعة المؤامرة التي يتعرض لها شعب فلسطين وقضيته على الدوام.

د. عبد الرحيم محمود جاموس


...............................................

رأيت في غزة باعة عن أهلها غرباء،
وباعةً من أهلها لقطاء،
يتجولون في شوارعها وشواطئها،
يدفعون أمامهم عربة على سطحها قطارةٌ وكأس فارغٌ
ومن تحته قوارير صغيرة وكبيرة ألوانها حمراء،
ومن تحت القوارير جرةٌ من فخارٍ وفوقها وعاء،
يبيعون بضاعتهم بالجملة، وبالمفرَّقِ، وبالقطارة لمن يشاء
لمن يقيم فيها من أهلها بالقطارة بسعر باهظ،
ولمن يسافر عنها عائداً لبلاده بالمكيال وبالجملة بالمجان
يسافر هارباً بمغانم الحرب، وينجو من سطوة الغول ولدغ العنقاء
ينادون بأصواتٍ عالية متداخلة في لجةً صاخبةٍ،
في زحمة خانقةٍ وضوضاء
يتحدثون بلغات متعددة، متقاطعة، متقاربة، متباعدة
كانوا يبيعون عصيراً طازجاً وبارداً للعطشان
ومشروباً ساخناً للجائع والبردان،
شوربةً بالعدس الأحمر والعظم،
لحمةً مشوية بفحم القنابل،
مدخنةً بعمود الدخان المتصاعد
سلطة فلفلٍ بدون بندورة وبلا خيار
ولبناً قانٍياً، وتمراً هندياً أسوداً وحساء.
..........................................................................................
كنت ظمآناً، فاقتربت من أحدهم،
حسبته يبيع عصير رمّان،
وطلبت عصيراً بارداً
ناولني كأساً مملوءاً عن آخره،
وفاض قليلٌ منه على يديه
وانساب على مرفقيه متسللاً،
كان العصير بطيء الحركة والجريان
مسكت الكأس الطافح بيدي المرتجفتين
فاندلقت قطرات منه على راحتي،
شعرت بسخونته ولزوجته،
أحسست بسكينٍ يهتك بالكف،
ويحدث جرحاً بالعمق
وشعرت بنزف من كٌلّي،
ودماء من عيني تحرق لحم الخد
لا .. لا ... هذا ليس برمان
هذا شيءٌ من عمل الشيطان
هذا إجرام واستخفافٌ بالعقل وبالإنسان
..........................................................................................
إقترب مني رجلٌ مذعورٌ يبحث عن شيءٍ ما
بادرني يسأل ملهوفاً:
أرأيت عظاماً أو لحماً يتطاير من بين دمار البنيان؟
أرأيت شعوراً بيضاء؟
للحية شيخٍ كان يصلي بالمسجد على كرسي.
أو عظماً لفتاةٍ مقذوفاً من بين الحيطان،
أرأيت دفاتر أطفالٍ تتطاير من بين الأحجار؟
أوجدت سواراً من ذهبٍ؟
أهداه عريسٌ لعروسٍه
كانت ذكرى لفتاة في يوم ما،
وطواها الموت الأحمرُ
صارت ذكرى هاربة تائهة في طي النسيان
ألمحت قصائد أشعارٍ طارت من بطن الشاعر؟
مع كبدٍ وبقايا أمعاء؟
كتبت بقصاصات من ورقٍ مهتريءٍ
وعلى نور سراجٍ محتضرٍ
كانت حُبلى بالآووووف وبالآهات وبالموال
جفت واحترقت وانتحرت من بطش وفتك الإنسان
...................................................................
قابلت امرأة غزية تزغرد بصوت عالٍ ...
أنا أم شهيد، أخت شهيد، زوجة شهيد،
وعمة شهيد، وخالة شهيد ...
الدمع مختنقاً ومأسوراً بعينيها
القهر مكبوتاً تحت وجنتيها
الفرح مشنوقاً بين شفتيها
والبسمة مغصوبة على محياها
العزة والكرامة مرسومتين فوق حاجبيها
تحمل ذراعاً مبتوراً من جسد طفل
تبحث ملهوفة مذعورة عن بقية الأعضاء المتناثرة
رأيت إصبعيه السبابة والوسطى متباعدين من طرفيهما
مرفوعتين الى الأعلى، بعلامة النصر
قضى قبل أن يرفع العلم على مآذن القدس
مات واقفاً وحاملاً العلم ينتظر ساعة الفرح
اغتالوا فيه أمانيه الطفولية
كان يتمنى أن يرفع العلم على المسجد الأقصى ...
شقيقه الأصغر تناول منه العلم قبل أن يلفظ الروح
وقبل أن يسقط العلم على الأرض
وبعدها سقط الطفل على الأرض
يحتضنها وفمه يقبل ترابها
عجبتُ من أمر هذه المرأة الفولاذية في عزمها
والرقيقة الحانية في عطفها،
والمخلصة في وفائها
لم ترهبها القبة الحديدية في مقتها وغضبها
لم تثنها عن لملمة رفات طفلها
النار تجري تحتها وفوقها ...
وعجبت لها ولطفلها ...
الذي آثر أن يسقط أخاه على الأرض
دون سقوط العلم
طوبى لهذه الأرض الحبلى ...
طوبى لهذا العلم بسدنته
رمزاً للحرية والصمود وللمقاومة .
...................................................................

الكاتب والأديب / أحمد ابراهيم الحاج
27/11/2012م

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت