كلما شبّهتُ سياسياً بحيوان, إنتابتني عقدة تأنيب ضمير. فالحيوانات على فطرتها بريئة, وصفاتها وجِدت فيها لضرورات. ومع إلمامنا بالتاريخَيْن معاً: تاريخ البشر وتاريخ الحيوان, نعرف كم هو ظالمٌ التشبيهُ بينهما.
لذلك, أعتذر مقدماً لحيوان التمساح, قبل البدء في هذه السطور. وأقول إنني مضطّر ل "ارتكاب" هذه السفاهة, لأنّ خيالي قاصر ولا يسعفني على أمر آخَر.
الرئيس الأمريكي, في ولايته الثانية والأخيرة, تكشّف عن تمساح, بخصوصنا نحن الفلسطينيين, تماماً مثلما كان في ولايته الأولى. وتماماً مثلما كان قبله كلُّ رؤساء أمريكا.
إسرائيل أعلنت الحرب الجديدة علينا, واستعملت جبروت سلاح جوّها, المكوّن بالأساس من الطائرات والمقذوفات الأمريكية, وجُنّت تنكيلاً وإرهاباً وهي تشرب من دم غزة المنهكة بالحصار. ومع هذا, يخرج تمساح أمريكا, في ذروة الهول, ويقف "مع حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". ولن أضع علامة تعجّب. فهذه العلامة صارت دليل سذاجة في زمن اليانكي الأمريكي.
الآن, وقد حلّت "التهدئة", التي هي فسحة التقاط أنفاس بين حربَيْن, لنرَ حصاد "هذه الجولة" كما تسمّيها الصحافة العبرية.
174 شهيداً, أكثر من ربعهم أطفال. أما عن نسبة النساء فيهم, فلا تقلّ عن عشرات, وأغلب الباقي مدنيون.
1400 جريحاً ومُصاباً, غالبيتهم العظمى من المدنيين أيضاً.
1500 طلعة جوية لطائرات الإف 16, وحوالي 3000 صاروخ "غير بدائي مثل صواريخنا" اُلقيت ك "وجبات سريعة" على المباني السكنية ومقرات الوزارات وغيرها. (اختفت طائرات الأباتشي, لأول مرة في هذه الحرب, والفضل يعود لخوف الإسرائيليين من وجود مضادّات ناجعة).
أما عن الويلات والعذابات التي خلّفتها الحرب, فلا تسل. الآن فقط, ستبدأ محاولات المكلومين في لملمة الجراح وتضميد الأحزان.
باختصار: هذه حرب قامت في الأساس ضد مدنيين عزّل. كما هي سابقاتها وكما ستكون لاحقاتها. فقطاع غزة هو أكبر علبة سردين في العالم, وأينما تضرب فستضرب لحماً. أما خرافة "بنك الأهداف" التي تتخذها إسرائيل ذريعة لكل حرب, ويتنطّع قادة مخابراتهم ومستواهم السياسي بها, فهي, كما يعرف أهل القطاع على جلودهم: "مجرّد خرافة". ذلك أنك لست في مواجهة دولة لها جيش نظامي ومقرّات ومطارات وأماكن تخزين عتاد ..إلخ.
العدوان الإسرائيلي منذ اللحظات الأولى, شرع في قصف المباني السكنية والأراضي الزراعية الفارغة, لأنه يعرف جيداً أن لا وجود لأهداف عسكرية في "بنك الأهداف".
ومع كل هذا وما قبله وما سيأتي بعده, يخرج تمساح اليانكي الأمريكي, ويقف بحزم مع "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" أمام هجمات البرابرة. أي دفاع أيها الأعمى؟ ومَن المعتدي؟ ومن البادىء؟ ومن القاتل ومن القتيل؟
لسوء الطالع, لا توجد إمبراطورية أخلاقية في تاريخ البشر المنكودين. لكنّ إمبراطوريتك التي نتمنى لها الزوال بأسرع وقت, فاقت التصوّر. فاقت التصوّر في: قلب الحقائق. احتقار الحقيقة. والإطاحة بكل ما راكمه الآدميون عبر التاريخ من محاولة الرقي بالبشرية من مرتبة القرد إلى مرتبة الإنسان.
أيها التمساح الآكل حقوق شعب محتل أعزل. الواقف ضدّ مسعانا حتى لنيل الاعتراف ب "دولة غير عضو لها صفةُ مراقب". يا قاتلنا بسلاحك ومالك ومواقفك. لا يوجد لدينا ردّ على ترّهاتك هذه غير ردّ وحيد: طي صفحة الانقسام البغيضة, والعودة لوحدة شعبنا وقضيتنا وهدفنا. ولتلك "الثوابت القديمة" التي يؤكّدها كل "واقع جديد", وأوّلها: "المقاومة بجميع أشكالها". خاصة وأننا جرّبنا الجري خلف سلامكم السرابي عشرين سنة, فزاد عطشنا عن ذي قبل, وتشقّقت الألسنة!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت