ما الذي قتل ياسر عرفات ومن المسؤول عن جريمة عدم كشف قاتله
يقول الله سبحانه وتعالى { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } آل عمران 169 ، جبلت أرض فلسطين بدماء الشهداء من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا وإلى يوم الدين ، وترابط فيها الطائفة المنصورة ، تدافع عنها وعن مقدساتها وثوابتها رغم المؤامرات التي تحاك ضدها ، قال صلى الله عليه وسلم { لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلاَّ ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك " قالوا يا رسول الله وأين هم ؟ قال " ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس } رواه أحمد .
عشنا قبل أيام الذكرى الثامنة لاستشهاد القائد الفلسطيني الرمز ياسر عرفات دفاعاً عن قضيته الفلسطينية ، قضية شعبه الذي قتل وشرد في بقاع الأرض بمؤامرة دولية اشتركت فيها عدة أطراف . قتل ياسر عرفات كغيره من الشهداء المخلصين في الدفاع عن قضيتهم العادلة بأدوات وأيدٍ تمثل أطراف التآمر عليها ، أيدٍ يُظْهِرُ أصحابها دعمهم للقضية ، لكن اتضح لنا أنهم من أدوات المؤامرة ، وشاركوا في قتل المخلصين من أبناء الشعب الفلسطيني وقادته بقفازات حريرية ناعمة وبشتى الوسائل القذرة . إن إثارة مسألة الكشف عن قتلة ياسر عرفات وكيف قتلوه تثير عدة تساؤلات حول الجريمة التي اهتز لها الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات ، والشرفاء والأحرار في العالم ، تساؤلات محيرة تحتاج إجابات مقنعة:
* فالرئيس عرفات قدم للقضية الفلسطينية كثيراً فاستحق بكل جدارة أن يوصف بأنه القائد الرمز والظاهرة التي لا يمكن أن تتكرر ، والشعب الفلسطيني الذي أحب قائده لماذا لم يطالب مجلس الأمن الدولي ـ حيث إنه يملك مقعداً في هيئة الأمم المتحدة اكتسبه عام 1974 لمنظمة التحرير الفلسطينية كعضو مراقب يمثل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات ـ بتشكيل محكمة دولية أسوة بمطالبة اللبنانيين بتشكيل محكمة دولية للكشف عن قتلة رفيق الحريري ؟
* هل هناك من لا يريد كشف جريمة قتل ياسر عرفات ومعرفة مقترفيها ؟ من المسلمات في علم المنطق أن البحث في مقدمات أية مسألة يوصل إلى نتائجها ، ومن أركان الجريمة في القانون الجنائي الباعث على ارتكابها ، فالتحقيق في دافع ارتكابها يؤدي إلى نتيجة حاسمة في معرفة الجاني وأدوات الجريمة . فالمطالبة بتشكيل محكمة دولية لتقديم المتهمين إليها في جريمة قتل ياسر عرفات كانت ضرورة لكشف هذه الجريمة اللغز ، فهي وحدها تستطيع التحقيق مع كل من يمكن يفيد التحقيق معه في معرفة بواعث الجريمة ومعرفة المستفيدين من قتله ، وهي وحدها تستطيع بالقرائن وبشكل دقيق وضع أشخاص لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة في دائرة الاتهام ، وهي وحدها تستطيع معرفة المسؤول عن عدم تشريح جثته رغم الإجماع على أنه مات مقتولاً ، إجابات ستوصلنا حتماً إلى إجابة السؤال الأكبر : من قتل ياسر عرفات ؟
* ربما يسألني سائل ما الداعي للبحث في هذه المسألة بعد مرور سنوات طويلة ؟ فأقول : مرور السنوات الطويلة رغم تشكيل عدة لجان وطنية تمثل المجلس التشريعي الفلسطيني ومؤسسة ياسر عرفات والسلطة الوطنية الفلسطينية ، ولجان دولية سويسرية وفرنسية وروسية والتي لم تصل كلها ولن تصل إلى نتيجة حاسمة ـ ربما لأسباب سياسية مع يقين الجميع بمن اتخذ قرار قتله ـ يجعل السؤال أكثر إلحاحاً ، فالظروف المحيطة منذ مفاوضات كامب ديفيد وما قبلها وما بعدها والحصار الذي فرض عليه في المقاطعة تؤكد أن قتله جزء من المؤامرة على القضية الفلسطينية ومحاولة تصفيتها . فبيان هذه الجريمة ضروري لكشف المؤامرة وتحديد أدواتها ومنفذيها الذين يعيشون بيننا ويخدعون شعبنا المسكين بكل الأساليب.
* وربما يسألني سائل آخر : لماذا تكتب في هذه المسألة ؟ لماذا أنت بالذات ؟ فأقول : إذا كان ياسر عرفات قتل بالسم وغيبه الموت فإنني أنا كاتب هذه السطور وبسبب علاقتي معه ، وبسبب مواقفي التي هي امتداد لمواقف والدي وعائلتي الذين تصدوا للمؤامرة على القضية الفلسطينية وعرفوا أبعادها ومنفذيها تعرضتُ للاغتيال على نحو آخر أشد خطورة من التغييب بالقتل ، إنه تشويهٌ واغتيالٌ مقصود لمواقفي ولتاريخي وتاريخ عائلتي ، وإنني أجزم أن التحريض الذي لا يتوقف ضدي مرتبط بالمؤامرة الكبرى على القضية الفلسطينية وعلى أبنائها وهم جُلُّ الشعب الفلسطيني وسواده الأعظم .
بدأت معرفتي بالرئيس ياسر عرفات رحمه الله عن قرب إثر إبعاد الاحتلال والدي المرحوم سماحة الشيخ رجب حامد بيوض التميمي خارج الوطن عام 1980 مع رفيقيه المناضلين فهد القواسمة ومحمد ملحم رئيسي بلديتي الخليل وحلحول بسبب مناهضته الاحتلال بالكلمة القوية المؤثرة ، وبسبب مواقفه الجريئة والشجاعة التي كان يصدع بها في جنبات الحرم الإبراهيمي الشريف بالخليل بصفته عالماً من أعلام هذه الأمة ، وعضواً في الهيئة الإسلامية العليا بالقدس التي تضم النخبة من القضاة والمفتين وأهل الحل والعقد في القدس والضفة الغربية ، والتي أخذت على عاتقها بعد احتلال عام 67 التصدي للاحتلال الإسرائيلي والمؤامرات على القضية الفلسطينية ، فاعتقل وأبعد وقتل كثير من أعضائها ، وأتشرف بعضويتي فيها منذ عام 1983 وأمين سرها منذ عام 1998 وحتى الآن ، فقد حملتُ الراية من بعد والدي بمواقفي الوطنية وبالخطابة في الحرم الإبراهيمي الشريف ؛ والتي كانت منبراً للتصدي للاحتلال وإجراءاته ضد المقدسات وبالأخص المسجد الأقصى المبارك إلى أن تم منعي منها وإحالتي على التقاعد المبكر عام 2010 قبل اثني عشر عاماً من بلوغي سن التقاعد في محاولة لتغييبي عن المشهد الفلسطيني . فبعد هذا الإبعاد القسري التقيت برفقته بالرئيس ياسر عرفات في عمان عدة مرات ، ثم توطدت علاقتي به بعد عودته إلى أرض الوطن عام 1994 وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية رغم اختلاف والدي رحمه الله واختلافي أنا معه على اتفاق أوسلو ، فكان يقول لنا [ إذا كان لكم ملاحظة على هذا الاتفاق فعندي عشرات الملاحظات ] وكان يبرر الاتفاق بمبررات مقنعة وأخرى غير مقنعة ، فياسر عرفات يمكن الاختلاف معه لكن لا يمكن الاختلاف عليه ، ثم توثَّقت العلاقة بيننا أكثر بعد حصاره في المقاطعة .
المهم في موضوعنا ـ كما حدثني هو شخصياً ـ أنه في كامب ديفيد في شهر تموز عام 2000 الذي كان حلقة في سلسلة المؤامرة على القضية الفلسطينية مورست عليه ضغوط هائلة لا يتحملها بشر من الإدارة الأمريكية ورئيسها كلينتون الذي كان يستعين ببعض الزعماء العرب (ممن ذهبوا إلى مزابل التاريخ) لإقناعه بقبول إملاءاتها إرضاء للُّوبي الصهيوني في أمريكا ولرئيس وزراء إسرائيل آنذاك وهو باراك ، وعُرِضَتْ عليه عشرات مليارات الدولارات لحل مشاكل الشعب الفلسطيني واللاجئين ، وأغري بتتويجه ملكاً للعرب مقابل الاعتراف بحق للاحتلال في القدس وبالأخص أسفل المسجد الأقصى المبارك ، فكان موقفه الشهير الذي لا يقل عن موقف السلطان عبد الحميد حينما جاء هرتزل يغريه بالمال يوم أن كانت خزائن الدولة العثمانية خاوية فعرض عليه 150 مليون ليرة ذهبية مقابل الموافقة على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين فرفض ، وياسر عرفات أيضاً رفض وقال [ إن المسجد الأقصى المبارك هو جزء من عقيدة مليار ونصف المليار من المسلمين لن أعترف إلا بما يعترف به كل هؤلاء ] . فصدر القرار بقتله ، فقد قال له كلينتون إذا لم توافق فستحدث تغييرات في المنطقة وستكون أنت من ضمنها ، فرد عليه قائلاً [ أدعوك من الآن لحضور جنازتي ] . وفشلت هذه الحلقة من حلقات المؤامرة على القضية الفلسطينية نتيجة هذا الموقف الصلب .
وفي اجتماعه مع الوفد الفلسطيني ـ وكنتُ أنا من ضمن الوفد ـ في جناحه في أغادير في شهر 8 عام 2000 ليلة اجتماع القدس الذي دعا إليه العاهل المغربي الملك محمد السادس شرح الرئيس الشهيد للوفد الفلسطيني ما حصل معه في كامب ديفيد ، فقال له أحد أعضاء الوفد كيف تجرؤ أن تقول لكلينتون لا ؟ فرد عليه [ إنني كنت أتحدث بما أعتقد فموقفي مستمد من ديني وعقيدتي ومن إخلاصي لقضيتي وقضية شعبي ] .
وبعد عودتنا من أغادير قرر شارون ـ الذي كان حينها وزير الدفاع ـ دخول المسجد الأقصى المبارك ، فذهب الرئيس ياسر عرفات إلى منزل رئيس الوزراء باراك شخصياً لإقناعه بمنع شارون دخول المسجد الأقصى المبارك ، لشعوره بأن هذه الخطوة تنفيذ لتهديد كلينتون بالتخلص منه بسبب موقفه الصلب في عدم التفريط بذرة من تراب القدس كما كان يردد دائماً ، لكن باراك لم يعد بشيء بسبب قرب الانتخابات العامة ، فاقتحام المسجد الأقصى المبارك من قبل شارون صاحب التاريخ الدموي ضد الشعب الفلسطيني سيشكل رافعة لهما وحفاظاً على مكانتهما بالفوز في الانتخابات ـ تماماً كما فعل نتنياهو مؤخراً في عدوانه على غزة بقتل القادة والأطفال والنساء والشيوخ ـ وفعلاً فاز شارون في تلك الانتخابات ، وكأن دماء أبناء الشعب الفلسطيني وقادته وانتهاك مقدساته وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك الذي هو جزء من عقيدة الأمة وهوية هذه البلاد المباركة ومحور معجزة الإسراء والمعراج هي قربان لليمين المتطرف ، وسلم للارتقاء إلى سدة الحكم .
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله أواصل الحديث .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت