أرهقتني الصحافية الإسبانية بأسئلتها المستفزّة. "أنتم أيضاً تستخدمون العنف في صراعكم ضد إسرائيل". كدت أن أوقف الحوار وأنبر في وجهها: إذهبي إلى الجحيم. لكنني تنبّهت في الثانية الأخيرة, إلى أنها ليست وحدها. فأغلب الإعلام الغربي, خاصة اليميني منه (وهو الأغلب والأعمّ هنا) ينسج على هذا المنوال. وكلما بدأ الغاصب حرباً, نادى هذا الإعلام ولا ينفكّ ينادي وسينادي: "بحق إسرائيل المقدّس في الدفاع عن نفسها".
كلا سأستعين بالصبر وطولة الروح, وسأبدأ لها الشرح من "المربع الأول", شرحاً مقتضباً وبأقلّ الكلمات. وهكذا جرت المحاوَرة حتى انتهت. لأفاجأ حين نُشرت, كما أخبرني أصدقاء إسبان, بحذف معظم ما لا يروق للصحافية وللصحيفة.
هُولا بديموقراطية الكارتيلات وشفافية رأس المال المعولم!
تناقشهم, هم أحفاد حضارة التنوير, في "بديهيّات" انتهى منها "عالمهم الأول" ونفض يده قبل عقود, فتكتشف أنها عندهم, إذا ما مسّت مصالحهم, ليست بديهيات ولا ما يحزنون.
هي تصرّ على أننا كضحايا عنيفون. بَاليْ يا سِنيورة (بكسر السين). نحن اُضطررنا للمقاومة المسلحة التي تسمينها أنتِ عنفاً (وهي عموماً مقاومة بدائية لا تُقارن بقدرات الطرف الآخَر. لأنّ الطرف الآخر, العدو, بالغ الوحشية والعنف, ومدجّج بأقوى أسلحة وتقنيات العصر)
وهو الذي جرّنا ويجرّنا جرّاً لهذا المربع, ولم يدع لنا من خيار آخَر.. لا تقتنع السَنيورة (بفتح السين هذه المرة), وتقول: لا يجوز للمظلوم أن يُقلد الظالم. أردّ: كلامك نظرياً صحيح. وحسناً أنكِ اقتنعتِ ب"ظالم ومظلوم", لكنّه كلام غير واقعي. كلامك يُناسب سقراط لا بيبي النّتِن وليبرمان حارس البارات. وندخل في سجال عقيم. فالسِنيورة السَنيورة, تنسى القويَّ المفتري وتركّز على الضعيف الغلبان. أدخل معها في نقاشات فلسفية وأخلاقية, متوسلاً بفلاسفة اليونان القديم, مروراً بنظرائهم في أوروبا الحديثة, وصولاً إلى جنوب أفريقيا ونيلسون منديلا, إنما دون طائل.
أخيراً, تصدّني بلادتُها وعدم إحساسها, فضلاً عن جهلها بحقائق ودقائق الصراع القاسي المركّب, فأقول ما عندي, وأكتفي. تقتنع هي أو لا تقتنع لا يهمّني.
فهؤلاء ولاؤهم لمصالحهم, ولربيبتهم التي زرعوها في المنطقة, لا للحقيقة.
وأنا, طول عمري, لا أحترم اليمين, سواء كان وطنياً أو دينياً. ليس بداعٍ إيدولوجي, بل لأنه فحسب, لا يحترم الحقيقة, ويصمّ أُذنيه عنها, إذا ما تعارضت مع مصالحه وأطماعه.
السنيورة تريد من الشعب الفلسطيني الأعزل أن يُدكّ بالإف 16 والأباتشي, وأن لا يصرخ حتى.
السنيورة تستمتع بلوم الضحية, وبامتداح الجلاّد.
ذلك أنها, لم تجرّب "الاحتلال" يوماً. الظُلم والمهانة يوماً. سحق الكرامة الإنسانية بالنعال يوماً. هدم البيت على رءوس ساكنيه يوماً.
وذلك أنّ ثقافتها وتنويرها (مبروكان عليها) أخفيا عنها أنّ الاحتلال, أي احتلال وكل احتلال, هو في حدّ ذاته: الإرهاب. الإرهاب بألف لام التعريف الكبيرة الجهيرة. وأنّ أخطر وأخسّ وأعتى إرهاب, هو إرهاب الدولة. ليش؟ لأنه إرهاب مُنظّم مُخطط له, وتُشرف عليه مؤسسات كبرى ويمتلك إمكانيات ضخمة, وطول نفَس.
أهلي في القطاع يُقتلون الآن تباعاً, أي أنّ الرقبة تحت السكين, وشلال الدم يشخب .. والسنيورة لا يعجبها ["عنف"ـ نا!] معها حق. كان يجب على أهالي القطاع ( ومعظمهم من الفقراء) المقيمين والمحاصرين في أكبر قفص على وجه الأرض, أن يخرجوا بأعواد النعناع الأخضر, بعد كل غارة وإشارة. أو بالورد الجوري, بعد أن تمحقهم وتُفحّم جثثَ أطفالهم ونسائهم طائراتُ الإف 16, لكي يروق نضالنا في العينين الخضراوين الجميلتين.
آه يا قلبي!
ثاني مرّة, سأسأل قبل موافقتي على إجراء أي حوار, عن هوية المحاوِر وهوية صحيفته, حتى لا أصابع بالصداع وارتفاع الضغط.
إسرائيل, وعبر خمس حكومات, تراهن على دمنا قبل أية انتخابات للكنيست. دمنا هو من سيجلب لقادة أحزابها الصهيونية, مزيداً من مقاعد البرلمان.
كلما سال دمنا أكثر, علت أسهُمُهم في بورصة الانتخابات.
هذه حقائق لا وجهة نظر. أشرحها لها بالتفصيل المملّ وبالتواريخ فلا تقتنع. تقول: كل طرف منكم يتحدث بما يناسب مصالحه. أي تساوي المظلوم بالظالم. وتتعامى حتى تعمى.
معلش.
أنا الحق عليّ. كان يجب أن أعرف هويتها قبل الحوار. فما من يمين, أمام جرح فلسطين النازف, إلا ويكون من أُذنَيْن:
واحدة من طين والأخرى من عجين.
أو كما قال ..
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت