ما أجمل الرقص! حين تقفز من الفرح، وتأتي بحركات لا إرادية، حين تشبك يدك بيد أقرب الناس إليك، وتكرران معاً الحركة ذاتها، وتتمايلان كأغصان الشجر، دون انتباه إلى الخطأ والصواب في الحركات، فكل من حولك يرقص، ويصرخ، وينادي، ويصفق، ويقفز، ويغني، ويتماوج الجمع مثل سعف نخيل تحركه الريح، فما أجمل الرقص معاً !.
رقصنا معاً في سجن نفحة الصحراوي سنة 1988، حين أعلنت القيادة الفلسطينية عن استقلال فلسطين، لقد التئم جمع السجناء وقت الخروج إلى باحة السجن في حلقة دبكة شعبية، وصرنا نرقص بشكل عفوي، وحين استنفرت إدارة السجن، وتقدمت بالعصي والمعدات لقمع حالة الرقص الفلسطينية، تصدى لهم السجين حرب الغصين والسجين ياسر الأغا، وقالا بالعبرية لمدير السجن الغاضب: شالوم، شالوم، نرقص للسلام، إنه الإعلان عن استقلال دولة فلسطين، ألم تسمعوا الأخبار؟ فلا تنزعجوا، لقد صار بيننا وبينكم سلام، من الآن لكم دولتكم ولنا دولتنا، لقد صرنا مستقلين عنكم، لقد اعترفنا بكم، وبما كسبتم، فاعترفوا بنا، وبما تبقى لنا.
ضحك مدير السجن، وقال بالعبرية الفصحى: حتى الآن، أنتم سجناء، ولم تصدر أي تعليمات جديدة بشأنكم، حافظوا على الهدوء.
لم يتأثر السجناء بكلام مدير السجن اليهودي، كانوا واثقين أن التعليمات ستصدر لهذا الغبي، وأنهم سيصبحون أسرى حرب، لقد كان السجناء واثقين أن قيادتنا السياسية لا تنطق عن الهوى، إنها القيادة التاريخية، فطالما أعلنت الاستقلال فمعنى ذلك أن الاستقلال في متناول اليد، وقد صار حقيقة، إنها قيادة حكيمة سليمة قوية متينة، قيادة لا تحلم إلا بالإنسان الفلسطيني المتماسك، ولا تقبل إلا بالأرض الفلسطينية المحررة من الاغتصاب.
ومنذ ذلك التاريخ وقيادتنا السياسية ترقص على طاولة المفاوضات، وتعلق أغصان الزيتون على طرق المستوطنين، وعلى فوه الدبابات، بينما ظل أعداؤنا اليهود يضغطون على الزناد، ويتوسعون في بناء المستوطنات، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ونحن نهتف للقيادة ذاتها، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم اسقط أعداؤنا أكثر من قيادة، ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا وقيادتنا السياسية تلوح برايات النصر، ليهز شعبنا الفلسطيني الخصر، ويهز الكتف بحنيّة، وقد زينته الرتب العسكرية، بينما يستعد أعداؤنا لبناء هيكلهم، وتوسيع نفوذهم داخل الحرم القدسي.
بعد خمسة عشر عاماً من الرقص بمناسبة إعلان الاستقلال، سنبدأ الرقص من جديد بمناسبة الإعلان عن دولة بصفة مراقب، سنرقص معاً، وننسى في الزحمة أن بعض السجناء الذين رقصوا في سجن نفحة سنة 1988، مازالوا في السجن حتى يومنا هذا!
لا أعرف إن كان السجناء يرقصون الآن أم يبكون حال فلسطين، ولكنني أعرف أن القيادة السياسية ما زالت ترقص، ونسيت في زحمة انتصاراتها الكثيرة أولئك السجناء، نسيتهم خلف الأسوار، لكي يقف القائد في احتفالات النصر، ويقول: التحية لأسرانا البواسل في السجون الإسرائيلية، فنحن لم ننساكم، ومنذ اليوم سنسعى إلى تطبيق بنود اتفاقية جنيف الرابعة عليكم يا أسرانا، سنجبر إسرائيل على التعامل معكم كأسرى حرب، فاطمئنوا، قوموا لنرقص معاً.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت