مالك الملكِ هو اللهُ وحده لا إله إلا هو الملكُ الحق الجليل ، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أهلُ الصفح والصبر الجميل ، جَلَا ظلمات الضلال بفجر الآيات من القرآن ، وجَلَّى حقائق الهداية بشمس السنة والعرفان ، فابتهج أهل الأبصار بالإيقان ، وانبسط الأمن بنور الإيمان ، فخضعت أعناق الجبابرة وأهل العدوان ، وأسلم مقراً له صلى الله عليه وسلم بالفضل لِمَا أَلِفُوْه ، ودان شامخُ الأنف لعدله فقد عرفوه ، وأصحابه صلى الله عليه وسلم هم أهل الوفا ، ومن اتبعهم بإحسانٍ واقتفى ، ورضى سيرتهم وسلك محجتهم واكتفى ، فهم ولاة الأمر الداعون إلى الله على البصيرة ، المقبولون عند الله بصفاء السيرة واصطفاء السريرة ، ويا فلاحَ العباد والزهاد خصوص وعموم المسلمين فِطَرُهم لم تتبدل قديمة ، وقلوبهم لم تتغير سليمة ، بالعلم النافع والعمل الصالح يُعْرَفُون ، وبحسن الأخلاق يُوصَفون ، إخوةً في الإيمان يتناصرون ، وأحبةً في الله يتزاورون ، طوبى لهم وحُسْنُ مآب ، جعلنا الله وإياكم معهم عطاءً منه الملكُ الوهاب .
أيها المؤمنون : كفى الإسلام ُ نعمةً وفضلا ، فهو نورٌ به يُهتدى ، وشفاءٌ به يُكْتفى ، قال الله تعالى في سورة يونس : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) } . يقول الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان] :( ..يقول تعالى - مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا الكتاب الكريم ، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: تعظكم، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله ، المقتضية لعقابه ، وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها{ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } وهو هذا القرآن ، شفاءٌ لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع ، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني ، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة ، وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه ، وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف ، وبينها أحسن بيان ، مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين ، وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده . { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } فالهدى هو العلمُ بالحق ، والعملُ به ، والرحمةُ هي ما يحصل من الخير والإحسان والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به ، فالهدى أجلُّ الوسائل ، والرحمة أكملُ المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين. وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمةُ الناشئة عنه، حصلت السعادةُ والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور. ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ } الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به على عباده { وَبِرَحْمَتِهِ } الدين والإيمان، وعبادة الله ومحبته ومعرفته. { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } من متاع الدنيا ولذاتها. فنعمةُ الدين المتصلةُ بسعادة الدارين، لا نسبة بينها وبين جميع ما في الدنيا، مما هو مضمحل زائل عن قريب. وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود ، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو الفرح بالباطل، فإن هذا مذموم كما قال [تعالى عن] قوم قارون له: { لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } . وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } ) اهـ .
يا عباد الله : إن أهل الإيمان هم أهلُ ذكر الله عز وجل وعباداته ، وهم أهلُ ثنائه بطاعاته ، قال الإمام ابن القيم في حادي الأرواح :(..وفي أثر إلهي يقول الله تعالى : أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، و أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، ابتليهم بالمصايب ، لأطهرهم من المعايب ..).
وإن أهل الإيمان هم الصادقون لا يترددون في قبول الأمر الكريم سواءً في القرآن أو السنة ، وافق أهواءهم أو خالفها ، فأهواؤهم للهداية تابعة ، ومحابُّهم من محاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نابعة ، فقد قال سبحانه :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) } .
قال الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره جامع البيان في تأويل القرآن:(.. يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدي والرشاد.وذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على فتاه زيد بن حارثة، فامتنعت من إنكاحه نفسها.ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا ....) إلى آخر الآية، وذلك أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم انطلق يخطب على فتاه زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فانكحيه، فقالت: يا رسول الله أؤمر في نفسي، فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ....) إلى قوله(ضَلالا مُبِينًا) قالت: قد رضيته لي يا رسول الله مَنكحًا؟ قال: "نعم" قالت: إذن لا أعصي رسول الله، قد أنكحته نفسي ) اهـ.
إخوة الإسلام والإيمان :طوبى لمن شرح الله صدره بالإسلام للإسلام ، واتبع طريق النبي عليه الصلاةُ والسلام ، وأحب آله فهم الأطهار ، واتبع أصحابه فهم الأبرار ، فنسألك اللهم أن توفقنا للعمل بدينك القويم ، وياربنا ثبتنا على صراطك المستقيم ، وألزمنا ما تحب وترضى على التأبيد والدوام ، وجنبنا ما تسخط من الأقوال والاعتقادات والأعمال وسائر المعاصي والآثام ، فهي سبيل الهلاك والعذاب الغرام ، اللهم وفقنا للأعمال الصالحات اقتفاءاً واتباعا وقرباناً متقبلا ، وجنبنا السيئات طريقاً وموئلا ، ومن تق السيئات يومئذٍ فقد رحمته ، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، اللهم آمين .
اعلموا عباد الله أن الله غنيٌ عنا ، لولا رحمته بنا لهلكنا ، فعبادة العابدين لا تزيد في ملكه ، ولا زهد الزاهدين ، كما أن معصية العاصين لا تنقص منه شيئاً ، ومن رحمة الله بنا يا إخوة الإسلام أن العبادة الخالصة لله عز وجل تسمو بصاحبها فتصير النفس الأمارة بالسوء نفساً لوامةً ، ثم تعلو به في مدارج السالكين ، ومنازل السائرين في مراقي الفلاح ، فتغدو نفساً مطمئنة ، حتى لكأنه مَلَكٌ من الملائكة ، لا يشغله طعامٌ ، ولا يلهيه شراب ،شأنه التسبيح والتقديس ، وديدنه التحميد والتمجيد لربه عز وجل ، وهو إما تالٍ لكتاب الله ، أو عامرٍ لبيت الله ، يجل الكبير ، ويرحم الصغير ، وكما في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"ليس منا من لم يجل كبيرنا و يرحم صغيرنا ! و يعرف لعالمنا حقه " ( حسنه الألباني ) .
وإن عباد الله حقاً وأتباع رسوله ً -صلى الله عليه وسلم- صدقا يقربون أهل الصدق والوفاق ، ويُبعدون أهل الكذب والنفاق ، وكما روى مسلم بسنده عَنْ أَبِى رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :"مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ".
فلنصدق الله عباد الله ، ولنتبع القول بالعمل ، ولنقم لله عز وجل بحقه ، ولنطع الله في عباده وبلاده ، ولنصلح ولا نتبع سبيل المفسدين ، ويا عباد الله ..ألا فلتصلوا وسلموا على من هداكم الله به صراطاً مستقيما ، آمراً إياكم به أمراً كريما بدأ فيه بنفسه ، وثنى بملائكته فقال :{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} سورة الأحزاب.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت