أثناء زيارة بحثية لي في جامعة برلين الحرة في صيف 2010م، وبينما كنت أتناول طعام الغذاء في مقصف الجامعة المركزي، اقترب مني شاب ذا ملامح شرقية يبلغ من العمر نحو 26 عاماً، وبكلمات ألمانية ركيكة أستأذن بالجلوس على الطاولة التي أجلس عليها. وهو شيء معتاد نظراً لكون المقصف يزدحم وقت الظهيرة، ويجلس الطلبة بجانب بعضهم البعض دون تكلف أو إحراج. فأذنت له، وقلت في نفسي جيد أن نتبادل أطراف الحديث كون ملامحه شرقية، حيث يقتل ذلك ملل تناول طعام الغذاء منفرداً. فقلت له يبدو أنك طالب ماجستير مستجد حيث أن لغتك الألمانية الركيكة (جداً) تنم على ذلك. فقال نعم، أنا مهندس من إيران، وأنا هنا في دورة علمية فقط وليس طالباً في الجامعة. وطلب أن نكمل الحديث باللغة الإنجليزية. وعرفت منه أنه من حزب الخضر المعارض للحكم في إيران، حيث أراني قطعة جلدية خضراء يضعها على معصمه بفخر. وأثناء الحديث أبدى أنه يعارض قضية فلسطين، وله موقف من الفلسطينيين. فأثار ذلك استغرابي وقلت له لماذا؟ فقال أن نظام الحكم في إيران يقيم علاقات جيدة مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وكونه معارضاً للنظام الديني في إيران فهو يعارض كل من له علاقة مع النظام. فقلت له: يبدو أنك مخطأً في موقفك، وتحاول خلط الأمور. أنا احترم رأيك بمعارضة النظام، ولكن لماذا تدخل خلافك السياسي الداخلي في موقفك من قضايا العالم التي تحيط بك. ألست أنت إنسان، وضد من ينتهك حقوق الإنسان. أنت لك أفكار ليبرالية، وتؤمن بالحرية الفكرية والشخصية، ولذلك ترفض دولة الآيات الدينية في إيران. وهذا يحتم عليك احترام حقوق الإنسان وحريتهم، وحق تقرير مصيرهم. ولذلك عليك أن تكون إنسان، وتحترم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ونيل حريته. ولا علاقة لعدالة قضية الشعب الفلسطيني بموقفك وخلافك مع النظام. فبدا عليه علامات التغير والاقتناع. ولكنه قال: ولكنني أرفض الحكم الديني ولديكم حكم ديني من حركة حماس. فقلت له: قد نتفق في معارضة النظام الديني، ونعتقد أن الساسة يجب ألا يوظفوا الدين في خدمة السياسة، وأننا نؤمن بدولة القانون، وليس دولة الفتاوى المتناقضة، والموسمية التي تكون حسب الطلب. ومع ذلك فإن حركة حماس هي حركة فلسطينية تقاوم الاحتلال وصولاً إلى تحرير الوطن، وتحقيق حق تقرير المصير، ولذلك لها الحق أن تقيم علاقات مع أي نظام يرغب بالمساعدة لتحقيق ذلك، وهذا تقاطع مصالح. ولكن يجب ألا يؤثر ذلك على موقفك الإنساني والإسلامي تجاه قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية. وانتهى الحديث والنقاش بعد أن بدت علامات الاقتناع على وجه محدثي. وفارقنا طاولة المقصف كل في طريقه.
وما دفعني لذكر هذه المحادثة هو تكرار حدوث ذلك الآن، ولكن للأسف من قبل أخوة وأخوات مصريين. حيث أنهم يحاولون الخلط بين خلافهم السياسي مع النظام القائم في مصر، وبين القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. ففي اليومين الأولين من الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة على غزة (عمود الدخان)، هاجمت مقدمة برامج مصرية تدعى لميس الحديدي(على قناة سي بي سي C.B.C) فكرة إعداد وإنشاء مخيمات في سيناء للاجئين الفلسطينيين المتوقع خروجهم من غزة باتجاه مصر هرباً من لهيب الحرب. وقبل أن تتأكد من صحة الخبر، شككت المذيعة في عودتهم إلى غزة بعد انتهاء الحرب، وبدا من حديثها مدى الهجوم على الفلسطينيين، وأنهم يطمعون في أرض مصر، ولم تبد أي تعاطف مع شعب غزة الذي يواجه آلة الدمار والخراب الإسرائيلي. وكأن سكان غزة سوف يغزون مصر وإلى الأبد. والحقيقة أنني شعرت بتفاهة هذه المذيعة، وسطحية تفكيرها. وأنها لا تعلم أن الشعب الفلسطيني مستعد للموت على أرضه على أن يدخل في حركة لجوء جديدة. وأن الشعب الفلسطيني قد أدرك خطأ ما حدث عام 1948م، وأن كرامة الإنسان في حياته ومماته هي على أرضه. وأن الشعب الفلسطيني قد أدرك الثمن الذي يدفعه الفلسطيني من اللجوء، وكيف يتعرض للاضطهاد في العراق، ويدفع الثمن غالياً الآن في سوريا، كما دفع الثمن باهظاً قبل ذلك في لبنان. وأن فكرة اللجوء قد غادرت التفكير الفلسطيني إلى الأبد. ولكن هذه المذيعة التي تعارض نظام الرئيس مرسي قد فاضت بمعارضتها لكل من له ارتباط بسياسة مرسي واتصالاته. ونسيت هذه المذيعة أو تناست أن لفلسطين قضية عادلة، وأن شعبها يناضل من أجل وجوده، وحريته واستقلاله. وأن غزة وفلسطين هي بوابة مصر، وجزء مهم من أمنها القومي. وأن قوة مصر ليس في انكفائها على نفسها وعزلتها عن عمقها ومحيطها العربي، بل في تصدر وقيادة محيطها العربي، باعتبارها القلب النابض للأمة العربية. وأن قوة مصر تكمن في استرداد دورها كقوة عربية ناهضة. واستعادة دورها الإقليمي الذي تغولت عليه دول الأطراف مثل إيران وتركيا. وأن عظمة مصر هو استرداد تاريخها ليس في الدفاع عن القضايا العربية بل القضايا الإفريقية، وأيضاً في لعب دور دولي كما كان في منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي حديثاً)، ومنظمة دول عدم الانحياز. وأن قوة أي دولة لا تقاس بقوتها الداخلية بل بقوتها الخارجية، وتأثيرها على محيطها.
وقد تكرر الهجوم على غزة، وفلسطين في (حلقة يوم الثلاثاء 4/12/2012م) من برنامج الاتجاه المعاكس الذي يبث في قناة الجزيرة، والتي تناولت الوضع السياسي في مصر، هاجم المتحدث المعارض للنظام السياسي في مصر (محمد أبو حامد وهو عضو مجلس شعب سابق) اهتمام الرئيس مرسي بغزة على حساب مصر. ومن المؤسف أن يصدر هذا الموقف من نخب ثقافية كان أجدر بها أن تكون حاملة لثوابت الأمة، وقضاياها الجوهرية ومن ضمنها القضية الفلسطينية التي تعد قضية عادلة، وأساس أي مشروع نهضوي عربي سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الحضاري. وكان يمكن أن يستوعب ذلك من قبل رجل الشارع البسيط المنغمس في هموم وتفاصيل حياته اليومية، وعدم وعيه وإدراكه بترابط القضايا الداخلية والخارجية، ولكن أن يصدر ذلك من المثقفين فتلك الطامة الكبرى، وذلك هو الانكسار والهزيمة الحقيقية، لأن المثقف هو آخر من ينكسر، هذا إن سُمح له أن ينكسر. فكثيراً ما يتردد أن هناك هامش للمناورة للسياسي باعتباره يسير وفق فن الممكن وفن الواقع ولكن لا يوجد هامش مناورة للمثقف الذي هو ضمير الأمة وحاضن تاريخها وثوابتها وقيمها. وأن ما يصدر من أقوال عن العديد من النخب المصرية الإعلامية والسياسية يعبر للأسف عن ضيق الأفق الذي أصاب هذه النخب، ويشير إلى تخبطها وقلة وعيها بمحيطها الداخلي والخارجي. ودون أن يدرك هؤلاء أن مصر كانت ولا تزال عظيمة برجالها ومواقفها ودورها تجاه القضية الفلسطينية والقضايا العربية. وأن الخلاف السياسي الذي يحدث في مصر _والذي نتمنى أن يزول قريباً بالحوار وتغليب لغة العقل والحكمة_ يجب ألا يكون مبرراً لخلط الأمور، ومهاجمة الشعب الفلسطيني وقضيته. فأرادت هذه النخب أن تقزم دور مصر العروبة. وأن تحرفه عن مساره التاريخي والقومي والإسلامي.
وكوني لم أقبل قول وموقف شاب إيراني لا يزال في مقتبل العمر، ولا يعي الكثير عن القضية الفلسطينية وعدالتها فكان متسرعاً في موقفه وأفكاره، وكوني لم أقبل بقول وموقف الشاب الإيراني، وهو الذي لا يربطنا به سوى رابط واحد هو الرابط الديني، فكيف أقبل قول وموقف بعض النخب المصرية التي يربطنا بها الكثير غير الرابط الديني، فهناك الجوار، والعمق الأمني، والرابطة القومية، ووحدة التاريخ المشترك، بل ووحدة اللغة والثقافة. ويذكرني هنا الرحالة الفرنسي فولني Volney الذي زار فلسطين في الفترة بين 1782-1785م، واعتبر أن غزة تنتمي إلى مصر جغرافياً ومناخياً وسكانياً وسلوكاً وتقاليداً ولهجة أكثر مما تنتمي به إلا بلاد الشام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت