ما الذي قتل ياسر عرفات ومن المسؤول عن جريمة عدم كشف قاتله؟
الحلقة الثانية
ذكرت في حلقة الأسبوع الماضي أن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون حاول فرض إملاءاته على الرئيس الشهيد ياسر عرفات رحمه الله في لقاء كامب ديفيد في شهر 7 عام 2000 للاعتراف بحق لليهود في المسجد الأقصى المبارك ، وتعرض إلى الابتزاز من باراك ، وإلى الضغط من بعض الحكام العرب للموافقة ؛ إلا أنه رفض بإصرار ، فتعرض بسبب ذلك إلى تهديد مباشر من كلينتون بالتخلص منه . وهنا لا بد من العودة إلى أحداث ما قبل لقاء كامب ديفيد :
1- كان بابا الفاتيكان السابق يوحنا بولس الثاني قد زار فلسطين والقدس في الألفية الثانية ، ودعا إلى لقاء لحوار الأديان في مركز نوتردام الكائن مقابل باب الجديد في مدينة القدس ، وقد كلفني الرئيس الشهيد بتمثيل المسلمين فيه ؛ حيث كنت يومها نائباً لقاضي القضاة وقائماً بأعماله ، وفعلاً عقد اللقاء بتاريخ 23/3/2000م . وحضره من الجانب الإسرائيلي حاخام إسرائيل الأكبر "إسرائيل لاو" ، لهذا فحضوري اللقاء ينطوي على مغامرة ومجازفة كبيرة ، وبعد الدراسة وتقدير الموقف مع الرئيس ياسر عرفات اتخذ القرار النهائي بأن أحضره ، فعدم حضور من يمثل المسلمين سيمكّن بابا الفاتيكان والحاخام المذكور من اتخاذ موقف مشترك بشأن القدس في غياب المسلمين .
اتصل بي القاصد الرسولي رئيس البعثة البابوية في القدس يخبرني بإرسال سيارة لتقلَّني من حاجز قلندية إلى القدس بسبب إغلاق المدينة المقدسة أمام حركة السير نظراً للإجراءات الأمنية المشددة التي اتخذت لحماية البابا ، ولما علمتُ أن السيارة هي لوزارة الخارجية الإسرائيلية رفضتُ ذلك ، وذهبت إلى القدس بسيارتي التي ركنتها في منطقة وادي الجوز بالقدس وذهبت من هناك إلى مركز نوتردام مشياً على الأقدام .
وصلتُ المركز الساعة الرابعة عصراً قبل موعد الاجتماع بساعتين ، فوجدت الأب وليام الشوملي منظم اللقاء فطلبتُ الاطلاع على البرنامج ، فتبين لي بأنني سأكون أول المتحدثين ثم الحاخام ثم البابا ، ثم نقوم معاً بري شجرة الزيتون رمز السلام الدائم ، فاعترضتُ على البرنامج وطلبتُ أن أكون المتحدث الثاني لأرد عليه ، وإلغاء فقرة ري الزيتونة ، واشترطْتُ ألاَّ أجلس بجوار الحاخام وألاَّ يسلم علي ، لكن الأب وليام قال : هذا البرنامج موافق عليه من الفاتيكان ولا يمكنني تغييره ، فقلتُ له : إذا لم يتغير البرنامج فسأغادر وأقاطع الاجتماع ، فاضطر إلى الموافقة وقال : لا أستطيع إلغاء فقرة ري الزيتونة ، فقلت له : إذن لن أشارك فيها . وكان يرافقني في هذا اللقاء شقيقي المهندس حامد الذي يجيد عدة لغات كالإنجليزية والعبرية والألمانية . ثم هاتفني السيد نبيل أبو ردينة مستشار الرئيس على هاتفي السيلكوم يسألني عن مكان وجودي ليرسل لي سيارة مقدسية تنقلني إلى مقر اللقاء بناء على طلب الرئيس ، فأخبرته أنني وصلت مشياً على الأقدام .
وفي تمام الساعة السادسة مساء بدأ اللقاء بكلمة الحاخام التي تضمنت كلاماً كثيراً ، وفي نهايتها قال [ إنني أعتبر زيارة قداسة البابا للقدس اعترافاً منه بأنها العاصمة الأبدية للشعب اليهودي ] ثم جاء دوري لإلقاء كلمتي المقررة ، لكنني وضعتها جانباً وارتجلتُ كلمة غيرها فقلتُ [ أرحب بقداسة البابا في فلسطين وفي القدس عاصمتها الأبدية التي فتحها عمر بن الخطاب وحررها صلاح الدين ... ] وبينت أن المسلمين والمسيحيين عاشوا فيها معاً بمودة منذ الفتح الإسلامي على هدى العهدة العمرية التي كتبها عمر بن الخطاب حتى جاء الاحتلال الإسرائيلي عام 67 ؛ فانتهك مقدساتها وهدم باب المغاربة وصادر أراضي أهلها وأقام المستوطنات فيها وارتكب المجازر في ساحات المسجد الأقصى المبارك وانتهك حرمة كنيسة القيامة وعزلها عن محيطها الفلسطيني ، وأسهبتُ في إجراءات الاحتلال الإسرائيلي ضد مدينة القدس ومعاناة أهلها ، وقلتُ في نهاية حديثي [ إن الشعب الفلسطيني مسلمين ومسيحيين سيناضلون معاً لتحرير بيت المقدس والحفاظ على مساجدها وكنائسها ، ولتحقيق الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة وعاصمتها القدس ] وقد قاطعني الحضور عدة مرات بالتصفيق الحاد ، وبعد أن أنهيتُ جلست في مقعدي وقام البابا وقال : إنني آسف أن لقاء الحوار هذا بين الأديان قد تحول إلى مشادة بسبب الشيخ التميمي .
وبعد أن أنهى كلمته المقتضبة غادرتُ المكان فوراً لأداء صلاة العشاء ولم أعد إلى الاجتماع ، وفي اليوم التالي كان خبر هذا اللقاء على صدر صفحات الصحف الفلسطينية بعنوان [ لقاء حوار بين الأديان دعا إليه البابا يتحول إلى مشادة حادة بين الشيخ والحاخام حول القدس ] ، وقد تبين فيما بعد أن كل أجهزة الإعلام تناولت هذا اللقاء من مراسليها الذين كانوا يرافقون البابا في زيارته . وفي تاريخ 12/5/2009 م ، وبعد كلمة مشابهة ألقيتها أمام البابا بنديكت الحالي في مركز نوتردام ذاته في القدس أصدرت الحاخامية الكبرى في إسرائيل بياناً طالبت فيه الرئيس بعزلي من منصبي ، وسآتي على تفصيل ذلك في حينه من هذه السلسة .
2- وبسبب موقفي الحازم ذاك أمام البابا يوحنا بولس الثاني بعدم الاعتراف بأي حق لإسرائيل في القدس ، والتأكيد على إسلاميتها ومكانتها في عقيدة الأمة ، وعلى الرغم من كوني ممنوعاً من السفر خارج فلسطين بعد الاعتقال والسجن عقب مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف عام 1994 من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية ، إلا أن الرئيس الشهيد ياسر عرفات أصر على مشاركتي ضمن الوفد الفلسطيني في اجتماع المفاوضات متعددة الأطراف الذي عقد في شهر حزيران من العام ذاته في المدينة التاريخية بجوار مدريد في إسبانيا وهي مدينة تولاندو للحديث عن البعد الديني للقدس ، ورغم رفض إسرائيل السماح لي بالمشاركة في الاجتماع أو حتى السفر ؛ إلاَّ أنه هدد بعدم مشاركة فلسطين في هذا الاجتماع إذا لم أشارك أنا فيه ، فاضطرت إسرائيل إلى الموافقة تحت ضغط وزير الخارجية الإسباني آنذاك مارينتوس .
عقد الاجتماع برعاية الاتحاد الأوروبي وحضور وزير الخارجية الإسباني ، وحضره وفد إسرائيلي عالي المستوى يضم شلومو عامي وزير الداخلية الأسبق ومجموعة من الحاخامات وبعض الأكاديميين من جامعة بار إيلان ، وحضرته أيضاً مجموعة من القيادات المسيحية ، تحدثتُ في هذا اللقاء عن البعد الديني لمدينة القدس ، وبينتُ مكانتها في عقيدة المسلمين ، وأكدتُ إسلاميتها استناداً إلى ما ورد في القرآن الكريم بكونها محور معجزة الإسراء والمعراج مما جعلها مرتبطة بمقدسات المسلمين وعقيدتهم إلى يوم الدين ، وبينتُ أن القدس وفلسطين أرض وقف إسلامي لا يجوز أن تكون محلاً للمفاوضات أو المساومات أو التنازل عن أي جزء منها ، وهذا سبب قداستها إضافة إلى وجود المسجد الأقصى فيها ، وأنها مقدسة عند المسحيين لوجود كنيسة القيامة فيها ، واستشهدتُ بموقف الخليفة العادل حينما حانت الصلاة فطلب صفرونيوس منه الصلاة في كنيسة القيامة إلا أنه رفض لئلا يكون ذلك ذريعة لسيطرة المسلمين عليها , وأشرتُ إلى موقفه في العهدة العمرية استجابة لطلب صفرونيوس بعدم إسكان اليهود فيها ، وأثبتُّ أنه لا يوجد أي مقدس لليهود فيها ، وأن حائط البراق هو السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك وجزء من المسجد .
أثار حديثي هذا غضب الوفد الإسرائيلي الذي احتج بقوة على ما ذكرت ، وطالب رئيس الوفد الفلسطيني آنذاك وهو السيد سميح العبد وكيل وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي لسحب حديثي والاعتذار عنه ، لكنني أصررْتُ عليه مما أدى إلى انسحاب الوفد الإسرائيلي من الاجتماع وبالتالي فشله .
ثم عقد في الشهر التالي " تموز " لقاء كامب ديفيد الذي فشل هو الآخر بسبب موقف الرئيس الشهيد ياسر عرفات بعدم الخضوع لإملاءات الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون .
وفي شهر " آب " عقدت لجنة القدس اجتماعاً في أغادير في المملكة المغربية بناء على طلب الرئيس عرفات برئاسة العاهل المغربي محمد السادس ، وقبل افتتاح اجتماع اللجنة دعانا الرئيس الشهيد إلى جناحه كما ذكرت في الحلقة الماضية ، ولدى سؤال أحد أعضاء الوفد الفلسطيني كيف تجرؤ أن تقول لكلينتون لا فقال له [ إنني كنت أتحدث بما أعتقد فموقفي مستمد من ديني وعقيدتي ومن إخلاصي لقضيتي وقضية شعبي ] ثم ضرب يده على صدره جيب سترته العسكرية قائلاً [ اعتمدت في ذلك على ما قاله الشيخ التميمي في إسبانيا ] فأدار ذلك الشخص وجهه نحوي قائلاً : أنت الذي حرضتَ الرئيس على موقفه فقلت له : الحمد لله .
وبعد انتهاء الاجتماع تأخرت قليلاً لأستوضح من الرئيس كيف عرف موقفي في اجتماع إسبانيا فقال لي أنه لا يوجد اجتماع بشأن القدس وفلسطين في العالم إلاَّ وأنا موجود فيه ، فعرفت أن الذي زوده بتقرير عن هذا اللقاء رجل الأمن الفلسطيني عبد علون رحمه الله الذي قتل في تفجير فندقٍ في عمان قبل عدة سنوات ، فقد كان من ضمن الوفد الفلسطيني إلى اجتماع مدريد المشار إليه . وللحديث بقية ...
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت