رؤيا تُحَدّث ولا تَستَنسخ

بقلم: فراس ياغي


يجادل كثيرا من أنصار التغيير بأن ما يحدث في البلدان العربية التي حدثت فيها إنتفاضات شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بأنّ سيطرت أحزاب الأسلمة السياسية نابع من فشل كامل لأحزاب القومية العربية واليسارية التي لا تعبر عن تطلعات الجماهير المسلمة المؤمنة التي تبحث عن حكم إسلامي يعيد المجد الماضي إلى سابق عهده...فالدولة الاموية والعباسية وغيرها كانت تقاد من خليفه كمركز وحكام ولايات تتبعه وفقا لنظام الاسلام وليس وفقا لمفاهيم أخرى غربية أو شرقيه...ويعتقد البعض الآخر أن ما حدث نابع من رضا أمريكي مكّن تلك الأحزاب من بسط نفوذها من خلال دعم مالي سخي من دول النفط خاصة وأنها تتمتع بنفوذ جماهيري لا يستهان به، وأن الضوء الأخضر الامريكي منع الجيوش من التدخل بشكل مباشر وفظ، بل فرمل أي خطه قد تظهر لدى بعض الجنرالات لقمع تلك الأحزاب السياسية...وآخريين يرون ان الديكتاتورية الامنية التي حكمت تلك البلدان سهلّت العمل لتلك الاحزاب الاسلامية وقمعت الاحزاب الأخرى ولكن هذا تم بشكل نسبي لأن تلك الاحزاب تعرضت أيضا لقمع مباشر.
المجادلة الحقيقية لا تكون لماذا سيطر هؤلاء الإسلاميين على الحكم؟ بقدر كيف يحكمون؟!!! فالمسألة ليست تغيير ديكتاتور أمني بديكتاتور أيديولوجي، ولا أن تتحكّم بدل أن تحْكم، بل مدى إلتزام هذه الأحزاب بالديمقراطية والتعددية، ومدى قدرتها على أن تمثل الجميع لا أن تمثل نهجها وفكرها وحسب...ورغم أن تجربة الحكم التي بدأت للتو لا يمكن موضوعيا تقييمها إقتصاديا وإجتماعيا، إلا أن المؤشرات الأولى تُتيح لنا قراءة بعض المؤشرات السياسية من جهة، وطريقة وأسلوب الحكم من الجهة الأخرى، ويكفي أن نرى مثلا كيف أصبح أردوغان رئيس لحزب العدالة والحرية في تركيا بديمقراطية ألمئة بالمئة "100%" من أصوات حزبه، وقررات الرئيس مرسي في مصر بتحصين قراراته دستوريا، وموقف الغنوشي المتذبذب غير الواضح من بعض الممارسات السلفية العنيفه البعيدة كل البعد عن الديمقراطية في تونس، والدور الذي يقوم به حزب الاصلاح الاخونجي في اليمن والذي يزيد من حدة الصراع المذهبي هناك وبإرادة خليجية، والتوافق الذي تم في المغرب مع الملك هناك من خلال إعطاء حزب الحرية والعدالة الدور الاساسي مع إبقاء الصلاحيات المركزية في يد الملك، أما في سوريا فكل شيء لديهم مباح في سبيل إسقاط النظام لأن المسألة هناك ليس فقط إنتقام لما حدث في ثمانينات القرن الماضي وإنما لمحورية سوريا في المشرق العربي لطبيعة ما يخطط للمنطقة العربية ككل، فالعدو يتغير لوجهة أخرى ليس للشعب علاقة فيها.
العدو هو وجه إسلامي آخر، وطبيعة الصراع هي بين الامة الاسلامية ذو الكتلة الاكبر مع ذاك الدخيل عليها منذ عصر الفتنة وقتل يزيد بن معاوية للإمام "الحسين"...منطق غريب يعيد العرب لعصور غابرة تشكل محطات غير مضيئة في التاريخ العربي والإسلامي، فلا يزيد ولا أبيه لديهم أي حق تاريخي أو إسلامي حصري في تشكيل مستقبل العرب والمسلمين، ولا الجدال الذي تم منذ قرون من الزمن يؤسس لمستقبل مُشرق للأمة العربية، فالسنة والشيعة جزء من الامة الإسلامية، والله عزّ وجل قال في كتابه العزيز " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ" ( الانبياء،92) وقال أيضا: "وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" (المؤمنون،52)...الصراع المذهبي يفتت ولا يُجَمع، يؤسس لصراع دموي وأهلي لا يذرُ ولا يُبقي، ومن يرى بعيون البترودولار لن يكون مصيره سوى مصير الديكتاتوريات الأمنية السابقة، فلا مستقبل سوى بالتجميع والإعتماد على النفس والنهوض بالواقع العربي وفقا لمفهوم التعايش والتوافق والحوار، ليس بين المذاهب المختلفة في الدين الواحد فحسب، إنما مع الديانات الاخرى والأفكار الأخرى، فالوطن للجميع، و "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى".
تصريحات مرشد عام الإخوان المسلمين في الإردن سعيد همام عن تحريم النفط الايراني وتحريمة زيارة الشيعه لمقامات الصحابه والتي لا تخصهم وحدهم، فهم كانوا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آل بيته، وهذا يخص كل المسلمين والعرب، والإعلان الدستوري غير المسبوق، والعنجهية الأوغلوويّه تجاه الحل في سوريا، والمال النفطي الداعم، كل ذلك يصب في مفهوم ديكتاتورية الايديولوجيا كبديل عن الديكتاتورية الامنية، وهذا أخطر بكثير، فهنا من يدعي أنه وكيل الله الأوحد على الأرض وقراراته غير قابله للنقض، في حين الامن كان أمنا للنظام وزلمه أكثر من أي شيء آخر...واقع الامر يؤسس لصراع داخلي عنيف ودموي كما يحدث في سوريا إذا إستمرت الامور وفق النهج القائم، والبديل إستيعاب جديد لمفهوم الاصلاح والديمقراطية، فالتعددية تشمل الجميع، ولا تعددية في نطاق الايديولوجيا، أحزاب العدالة والحرية عليها أن تقر بالممارسة بمدنية الدولة وأن تقوم بعملية ثورية داخلية تسمح بالنهضة للوطن ككل لا للتنظيم وأفراده، فلا إصلاح للوطن دون إصلاح الحزب والجماعة، إصلاح يؤسس للتسامح ولسيادة القانون وللكرامة والعدالة الاجتماعية، وفصل المفاهيم الدينية المتزمتة عن الدولة المدنية، علمانية للدولة ومؤسساتها وليس للمجتمع، مأسسة الدولة وفق مفهوم التدريج وليس وفق مفهوم التحصين، أولوية الاقتصاد والعمل الاجتماعي التعليمي والصحي لا أولوية الحزب والجماعة.
إن التجربة البسيطه تؤشر لواقع إنفصالي عن المجتمع ويؤسس لحرب أهليه لا نهضة عربية-إسلامية، فالسيطرة والتحكم بالمجتمع لا تأتي بإعلان دستوري ولا بقوانين مُحصنة، إنما برضاء شعبي وجماهيري من فئات المجتمع ككل، من القبطي والمسيحي، من الكردي والنوبي، قبل الشيعي والسني، وهذا لا يمكن أن يتم دون شراكة فعلية مع الاحزاب القومية والوطنية المختلفه، تيارات أحزاب الحرية والعدالة في العالم العربي مختلفه عن تلك التركية، فهناك دولة علمانية عضو في حلف شمال الاطلسي بقيادتهم، وهنا دول متخلفه علميا وإقتصاديا ومقسمه وفق خريطه إستعماريه تسمح بالصراع الداخلي القبلي والمذهبي والديني، ومن يملك الثروة والقلة السكانية محمي ومحصن من كل شيء، ويعمل على دعم الصراع الداخلي في تلك الدول التي تملك الأغلبية السكانية ولا تملك الثروة.
أحزاب الحرية والعدالة وقياداتها يعتقدون أنهم خبراء، ونسوا أن الخبير ما هو إلا " الذي يعرف أكثر وأكثر عن أشياء أدق وأدق...حتى يصل إلى أن يعرف كل شيء...عن لا شيء"، ونسوا أيضا أن أئمة الاسلام إعتمدوا علم المنطق في الفقه، وإعتبروه وسيلة للتفكير الصحيح، وأن هذا العلم يوصلنا لإحتمالين، صح أو خطأ...فكل شيء لديه قاعده منطقية يُستند إليها، وإذا كانت قاعدة الحكم هي التعددية، فالتفرد ممنوع، وإذا كانت القاعدة هي الفصل بين السلطات، فتجميعها في يد الرئيس المنتخب من الكبائر، وإذا كان سيد البشر رسولنا الأكرم الموحى إليه صلوات الله عليه وسلم بشر، يُخطيء ويصيب " ما أنا إلا بشر مثلكم"، فالرئيس والمرشد بشرٌ غيرُ موحى لهم، إذا بالتأكيد يخطئون وعليهم أن يتراجعوا.
الأمة بحاجة لأن يظهر بين ظهرانيها من يجمع الناس لا من يفرقهم، وقد إستبشرنا خيراً بالحراك الجماهيري العربي، وإستبشرنا خيراً بديمقراطية نافية لما قبلها وبانيةٌ لما بعدها، إستبشرنا بتعددية جامعة وفق قانون ودستور عصري يتوافق مع القرن الواحد والعشرين لا سلفيه تعيدنا لعصور الفتنة والتفرد وطاعة ولي الأمر وفتاوى لا أول ولا آخر لها، فهل تتدارك أحزاب الحرية والعدالة نفسها قبل الامة وتعمل على توحيدها لا تفريقها وترى بعيون عربية محضه بعيدا عن العيون الغربية والامريكية بالذات؟!!! وهل تصل لنتيجة الامة العربية أولا والوطن أولا ولا مصلحه لغيرهما؟!!! أسئلة كثيرة في الذهن والقلب، وجوابها لدى القادمون الجدد من عصر الفكر السابق لعصر الفكر القادم من رحم السابق وفقا لمطلب جماهيري واقعي، والرؤيا التي تُحدّث ذاك السابق لا نسخه وفرضه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت