غزة الى اين؟

بقلم: عبد الرحمن شهاب

بعد انتهاء العدوان الاخير على غزة كثير من المراقبين والمحللين والمختصين في الشؤون الإسرائيلية في الاذاعات والمواقع والقنوات الاخبارية، تسمعهم عندما يُسألون عن الخيارات الاسرائيلية بعد العدوان والانتخابات الاسرائيلية، يقولون ان الحكومة الاسرائيلية المرتقبة والمتوقع فوزها في الانتخابات القادمة في اسرائيل ستكون حكومة متطرفة وفاشية، واهم اقطابها سيكونون "نتنياهو"، "ليبرمان" و "فيجلن" من "الليكود" و"بنط" رئيس قائمة "البيت اليهودي"، معتمدين في تحليلهم على منهج واحد في البحث، والقائم على ان اللاعب الوحيد في المنطقة هم الاسرائيليون والاسرائيليون فقط. ربما كان هذا المنهج مناسبا للتحليل قبل اكثر من عقد من الزمان، لكن عندما يتغير شكل المنطقة وتتغير الظروف المحيطة بإسرائيل، فان هناك عوامل جديدة يجب ان تؤخذ بالحسبان .

في هذا المقال سأحاول الاجابة على السؤال: هل ستكون هناك حرب قادمة في القريب؟ وفي أي الظروف ستندلع؟. وقبل ان اتحدث عن متى؟ ولماذا ؟ - ستنشب الحرب القادمة- اود ان اتطرق سريعاً للحديث عن الجولة الاخيرة.

لا شك ان المعركة الاخيرة كان لها اسباب موضوعية مثل وضع حد لصواريخ المقاومة ... الخ، ودوافع موضوعيه مثل الاجواء الانتخابية في اسرائيل والمصالح الحزبية.. الخ، وهناك ايضا دوافع ذاتية و شخصية في اوساط الاسرائيليين. فاذا توفرت الاسباب لشن العدوان ولم تتوفر الدوافع فمن الراجح ان لا تحصل الحرب، واذا توفرت الدوافع ولم تتوفر الاسباب فقد تحدث الحرب .

وبالنظر الى الاسباب المعلنة للحرب الاسرائيلية الاخيرة على غزة فهي كالتالي:
1- ترميم صورة الجيش الإسرائيلي التي أصابها الكثير من الضرر في الآونة الأخيرة وتعزيز قدرة الردع لديه.
2- تدمير القدرة الصاروخية التي تمتلكها حركات المقاومة في قطاع غزة وبالذات بعيدة المدى.
3- توجيه ضربة موجعة لحركة حماس تدفعها للمحافظة على موقف يهادن الاحتلال ويضبط إيقاع المقاومة ضده.
.. واما الدوافع الاسرائيلية الموضوعية للحرب:
1- الثقة المفرطة التي اظهرتها حماس بقدرتها على الفعل واستخفافها بالتهديدات الاسرائيلية.
2- ما أشيع وما تروّج له إسرائيل من امتلاك المقاومة لـ 12أّلف صاروخ، منها المئات تصل إلى جنوب وشمال تل أبيب، وبضمنها صاروخ فجر 5، والصاروخ المحمول على الكتف المضاد للطيران من طراز سام 7.
3- الأجواء الانتخابية في إسرائيل، والتي يتبارى فيها السياسيون الإسرائيليون على سكب أكبر قدر ممكن من الدم الفلسطيني.
4- المسافة بين جولات التصعيد أصبحت قصيرة ومتقاربة، وتشبه المسافة بين جولات هجمات المقاومة التي سادت قبل حملة الرصاص المصبوب، وكذلك عدد الصواريخ في هذه الجولة اقترب من نفس العدد قبل عملية الرصاص المصبوب، لهذا؛ فإننا نعتقد بأن إسرائيل يصبح لديها شعور بضرورة إجهاض الثقة التي باتت تتمتع بها المقاومة الفلسطينية.
5- تآكل قوة الردع التي حققتها إسرائيل نتيجة حربها على غزة، وبالتالي؛ فّإن الاحتلال يسعى لاستعادة وتجديد قوة الردع .

اما عن الدوافع الذاتية:
من الضروري هنا الحديث عن الدوافع الذاتية لدى الثلاثي الحاكم في اسرائيل " نتنياهو ، باراك ، ليبرمان " كل على حدة .

• رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو":
شخص يبحث عن اسم في التاريخ الاسرائيلي، فهو نجل المؤرخ والقائد في الحركة الصهيونية "بنتسيون نتنياهو"، فهو متأثر بالتاريخ من خلال والده. ومن هنا فإنه يهتم بالأمور الكبيرة ليخلد اسمه في التاريخ، ويرى في نفسة شخصية "بن غوريون" اليمين . هذا الدافع "النفسي" يفسر الى حد بعيد رغبته الشديدة في توجيه ضربة للمواقع النووية الايرانية.
فالشخص الذي ينادي منذ اكثر من نصف سنة بتوجيه ضربة لإيران، لدرجة توتير العلاقة مع الولايات المتحدة والمزاودة على الرئيس الامريكي "اوباما" في ظل اجواء انتخابية في الولايات المتحدة، فإن هذا الشخص لن يستطيع ان يفلت من ضغط الشارع الاسرائيلي الراغب بإيجاد حل لمشكلة الصواريخ التي تسقط على مدن الجنوب المحاذية لقطاع غزة.

• وزير الدفاع "يهود باراك" :
هو قائد عسكري بامتياز، قريب من الجيش. بسبب فشلة السياسي فان مستقبلة مرتبط بالتناغم بين شخصيته وتاريخه العسكري وبين هيئة الاركان, وبالقدر الذي أثر في العقد الاخير على الذهنية العسكرية للجيش الاسرائيلي، فانه متأثر بتوجيهات الجيش الاستراتيجية والتي تعتقد ان خطط الدرج يجب ان تخرج للتنفيذ في الوقت الذي تسمح لها الظروف بعيداً عن اية اعتبارات انتخابية او حزبية.
وفي نفس الوقت بالنسبة لباراك فان مستقبلة السياسي اشرف على نهايته، ولم يعد لدية ما يخشاه في الانتخابات المرتقبة، لان استطلاعات الرأي لم تكن تمنح حزبه احتمال ان يتجاوز نسبة الحسم. فمن الناحية السياسية فان مراهنته على الانتخابات اشبه بالضربة الأخيرة في لعبة كرة السلة ومن هنا يأتي تأييده لعملية عسكرية اقرب لموقف الجيش.

• وزير الخارجية "ليبرمان" :
من الواضح انه يمثل اقصى اليمين في اسرائيل، وعندما يتقدم الجيش بمقترح لتنفيذ عملية عسكرية ضد بلد عربي، فلا يملك ان يرفضها لان ذلك سيزعزع مكانته في اقصى اليمين، ويسمح لآخرين من الشخصيات ان يتجاوزوه ويظهروا اكثر يمينية منه.
وهنا اعود واذكر ان اسرائيل لم تكن اللاعب الوحيد في الجولة الأخيرة ، فالمقاومة كانت لاعب رئيسي، المقاومة كانت المحرك للدوافع الذاتية لدى اركان القيادة الثلاثية في اسرائيل, فبينما استراتيجية الجيش وافكار الاحزاب وايديولوجياتها تحدد الأسباب ضمن ردود الفعل الفلسطينية، فان توالي الصواريخ، وتفجير الانفاق، واستخدام صاروخ الكورنيت المضاد للدروع وخارق للتوازن ومسقط فاعلية الشريط الحدودي ذو الثلاث مائة متر في فترات قريبة جداً، في وقت كانت الانتخابات الاسرائيلية على الابواب، كل هذا ساهم في استثارة واستفزاز الدوافع النفسية لدى الثلاثي الحاكم في اسرائيل وجر هم و جر الحملة الانتخابية إلى جبهة الجنوب مع قطاع غزة.

وهنا استطيع القول بأن المقاومة اذا كانت معنية بالحرب السابقة فإنها كانت موفقة في توريط اسرائيل بهذه الحرب وكان تخطيطيها مبنى على حكمة ووعي ودراسة، أما اذا لم تكن معنية بالحرب فإنها لم تحسب بدقة الدوافع في التفكير الاسرائيلي للحرب، وتكون قد حفزت الدوافع وعززت الأسباب ولم تكن تعمل ضمن استراتيجية واعية لدوافع الاحتلال وأغراضه الاستراتيجية من قطاع غزة.

المعركة القادمة متى؟ ولماذا؟
سأتحدث هنا حول السيناريوهات المتوقع من الاحتلال القيام بها تجاه غزة حيث ان معركته مع غزة ليست هينة ولن تحسم في فترة قصيرة. فلدى الاحتلال مجموعة من الخيارات المتعددة فان تعذر عليه تنفيذ احدها فانه سيلجأ الى بديل، وكلها تصب في نفس الهدف الاستراتيجي المتمثل بتوفير الامن لمواطنيه ومنع أي اخطار مستقبلية على كيانه الوجودي.

وسأضع أربعة معايير يمكن لنا القياس عليها لتوضيح نوايا الاحتلال بخصوص حرب قادمة على غزة :
المعيار الاول: استراتيجية الاحتلال في غزة:
اليمين الحاكم في اسرائيل والمتوقع ان يستمر في سدة الحكم في الانتخابات الوشيكة، بدا مشروعه بالنسبة للقطاع منذ العام 2005 – الانسحاب الاحادي الجانب الذي نفذه شارون. والذي كان يهدف ومازال الى التخلص من قطاع غزة واخراجه نهائيا من دائرة الصراع. وفي هذا الاطار جاءت كل جولات التصعيد، جولة وراء اخرى لتشكل وعيا فلسطينيا وعربيا؛ يتقبل هذه الفكرة ويمهد لها، من خلال كل تهدئة تعقب تصعيدا، وتأتي بتفاهمات صغيرة لتتراكم وتشكل الفكرة الكاملة: "ان القطاع كيان منفصل وقائم بذاته" بل اكثر من ذلك بان تصبح فلسطين في الوعي العربي والاسلامي والدولي هي "قطاع غزة"، وفي هذه الفترة والعالم منشغل بجولات التصعيد والتهدئة، يكون الاحتلال قد قضى بالاستيطان وتهويد القدس على فكرة حل الدولتين.
وهنا أقول ان الاحتلال يقوم بمعاودة التصعيد كلما شعر ان الوعي الفلسطيني والعربي والدولي بحاجة الى "كي وعي" جديد كي تستقر الفكرة – "فكرة غزة اولا واخيرا" - في وعيه وتصبح من المسلمات او البديهيات. ولا يعني الاحتلال كثيرا ان نبقى نطالب بفلسطين من النهر الى البحر في المناسبات والاحتفالات طالما على الصعيد العملي استوعبنا الفكرة، وحيدنا غزة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

المعيار الثاني: القطاع في الواقع العربي والدولي :
ادركت اسرائيل والولايات المتحدة أن السلطة الفلسطينية لم يعد لديها تنظيم سياسي يشكل لها الدعم الايديولوجي والسياسي و حتى البشري ولذا فهي تتراجع امام صعود قوة حماس في هذه المستويات .
وادركت ان حماس برصيدها الايديولوجي والسياسي والعسكري والتنظيمي والبشري هي القادرة والوحيدة على ضبط غزة عسكريا. وحسب افتراضات اسرائيلية بان حماس يمكن ان تقبل بهذا الدور اذا حصلت على انجاز سياسي يتمثل في الاعتراف بسلطتها في غزة.

وبناء على الافتراض السابق فان اسرائيل يمكن ان تكون مترددة في تقدير الانجازات التي تحققت لحكومة حماس عقب المعركة الاخيرة والمتمثل في الدعم والمساندة العربية والاسلامية الرسمية : قطر مصر، تركيا، فمن جهة تأمل اسرائيل ان يشكل هذا الدعم والتأييد مدخلا لعبور حماس شيئا فشيئا في النظام العالمي المحكوم بالسيادة الامريكية والغربية والقابل بوجود اسرائيل بعيدا عن المحور الايراني الداعي لإزالة اسرائيل من الوجود. ومن جهة اخرى تخشى اسرائيل ان تنجح حماس في جر هذه الدول الى صراع ومواجهة مع اسرائيل.

وفي ضوء هذا المعيار يتضح انه كلما تحقق شيئا من التقدير الاسرائيلي بان حماس دخلت المحور القابل بوجود إسرائيل- فان هذا سيقلل من فرص التصعيد الاسرائيلي ضد غزة لان المجتمع الدولي الحريص على تطويع الربيع بما يتلاءم مع مصالحة ومن ضمنها بقاء اسرائيل وتشكيل محور " معتدل " في مواجهة " المحور المتطرف" الذي تتزعمه ايران – لن يقبل بتصعيد ضد غزة قد يقلب الامور راسا على عقب، ويحول مسار الربيع العربي إلى اتجاه بعيد عن المصالح الاوربية والأمريكية.

المعيار الثالث: خيارات قطاع غزة في المرحلة القادمة:
اليمين في اسرائيل لا يقبل بحل الدولتين الذي يريده المجتمع الدولي ولكنهم جميعا- المجتمع الدولي واليمين الاسرائيلي- يجمعون على فكرة تكامل الضفة مع غزة من خلال الانقسام، لكن وفي هذا السياق غزة توفر المخزون الأيديولوجي الذي يرفض فكرة "حل الدولتين" ويقزم خطوات ابو مازن في مواجهة الاستيطان وكل انجاز يحققه في سياق تحقيق دولة على اراضي 67 .
و في نفس الوقت توفر السلطة الفلسطينية المخزون الامني والحاجز النفسي بين غزة والضفة الذي يمنع من امتداد فصائل المقاومة الناشطة في غزة الى الضفة الغريبة.

وهذا المعيار يحتوي على احتمالين، الأول ان تكون هناك مصالحة فلسطينية- فلسطينية، والثاني ان يتبقى الانقسام الفلسطيني -الفلسطيني .
في حال استمرار الصراع الفلسطيني-الفلسطيني بين فتح وحماس، وغزة ورام الله، فإنّ إمكانية الصدام مع الجانب الاسرائيلي ستكون ضئيلة، وسيقتصر ردّ الفعل الفلسطيني في مواجهة الاستيطان واستفزازات المستوطنين على رفع شكاوى إلى الأمم المتحدة، وستعمل "السلطة الفلسطينية" على محاولة تهدئة غضب الجماهير والشارع الفلسطيني.

أما على صعيد قطاع غزة؛ فقد يدخل في تهدئة طويلة المدى ينشغل خلالها بمعالجة مشاكله الداخلية؛ بعيداً عن المشاركة في مواجهة الاستيطان في الضفة، وسيقتصر دور الفصائل في غزة على التصريحات أو التظاهرات التضامنية الرمزية، مع تحميل رام الله المسئولية، وتحريض الشعب في الضفة على أن يثور على الاحتلال، وربما على السلطة أيضاً .

أما في حالة تحقيق المصالحة وتجاوز محنة الانقسام؛ وتشكيل نظام سياسي فلسطيني واحد فإن السلطة الفلسطينية ستكون ملزمة ساعتها بالتوقف عن التنسيق الأمني مع إسرائيل، والتوقف كذلك عن مطاردة أنصار المقاومة في الضفة، في مقابل ذلك؛ ستكون هذه الفصائل ملزمة بالتوافق مع السلطة في الضفة على استخدام وسائل كفاحية سلمية، وهذا يعني أننا ذاهبون –في حال إتمام المصالحة- إلى مرحلة كفاحية تتشابه بشكل كبير مع انتفاضة 1987، وسيتم استبدال شعار " رفع الحصار عن غزة" بشعار " انهاء الاحتلال "، على الصعيد السياسي: فان الانتفاضة الجماهيرية ستحرك القضية الفلسطينية على المستوى الدبلوماسي، وتخلق جبهة سياسية عربية اسلامية وفي نفس الوقت اوروبية لصالح القضية الفلسطينية حيث ستشهد مدن وعواصم العالم مظاهرات التأييد والمؤازرة للشعب الفلسطيني الباحث عن الحرية. ونذكر هنا من تحذير الرئيس الفرنسي لنتنياهو عندما قال يوجد عندي اكثر من خمس مليون مسلم فرنسي. وفي هذه المرة ستكون الانتفاضة مؤلمة جدا لإسرائيل، كونها ستكون معززة بدعم عربي وإسلامي كبيرين، ورصيد كبير من الإنجازات العسكرية التي حققتها المقاومة في غزة، كذلك سيكون مؤلما لإسرائيل أن تواجه مثل ذلك الوضع في ظل عزلة دولية متزايدة.

المعيار الرابع : الحكومة الاسرائيلية
الحكومة الاسرائيلية القادمة ستكون على الارجح يمينية بامتياز ومتطرفة جداً ولن تعير اهتمام للمشروع العربي بحل الدولتين الأمر الذي سيرى فيه الغرب تهديداً لمصالحة في العالم العربي والإسلامي وافشالاً لمشروع الغرب بتشكيل جبهة "سنية" في مواجهة ايران "الشيعية".
الحكومة اليمينية قد تتخذ خطوات اخرى مثل بناء وحدات سكنية في مناطق الضفة لتحطيم مشروع "حل الدولتين" الأمر الذي يعزز عزلتها الدولية وفي هذه الحالة سيكون من الصعب عليها الخروج بعملية عسكرية ضد قطاع غزة.

يضاف لهذه المعايير الموضوعية الدوافع الذاتية المرتبطة بالتحليل النفسي والذهني للقيادات الاسرائيلية في الحكومة القادمة التي قد تتأثر في لحظة من الزمن بظروف محيطة مرتبطة اما بتصعيد المقاومة أو بضغط المجتمع الدولي الذي قد يضطرها للهروب إلى الامام.
في نهاية هذا المقال لا بد من الإشارة إلى ان فصائل المقاومة وقيادة السلطة الفلسطينية عليها أن تدرك أن المرحلة القادمة حساسة جداً وأن كل فرد في هذه الفصائل يمثل عاملاً مهماً في تحديد وجهة المرحلة القادمة ولا يمكن أن يعتبر أي تصرف خارج عن الحسابات الاقليمية وان كل قرار يتخذ يجب أن يكون قد أخذ جميع المعايير التي ذكرناها بالحسبان والبحث أيضاً عن معايير أخرى قد نكون اغفلناها.

عبد الرحمن شهاب
مدير مركز اطلس للدراسات الاسرائيلية

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت