بلاغ للنائب العام

بقلم: أسامه الفرا

حواديت ...
بلاغ للنائب العام
سقطت الطاولة على زميلتنا، هل نذهب لمساعدتها أم نتركها على حالها ونغادر المدرسة؟، بهذا السؤال بدأت ابنتي الصغيرة حوارها، لم أجبها على اعتبار أن السؤال استنكاري وله توابعه، لم يعجبها صمتي فأعادت السؤال مرة أخرى، وحيث أن الغضب بات يتملكها، وأردت أن أخفف من وطأته أجبتها ممازحاً على غير ما كانت تنتظره، قفزت على الإجابة واسترسلت في الحكاية، عاملة المدرسة أمرتنا بمغادرة المدرسة، ما كان منا أن نغادرها دون أن نساعد زميلتنا، في الوقت الذي فعلنا فيه ذلك، قامت العاملة بإغلاق بوابة المدرسة وتركتنا بداخلها نبكي، أليس في هذا السلوك إساءة للمدرسة؟، واختتمت حكايتها بالإصرار على حضوري للمدرسة وتقديم شكوى لمديرها، حاولت أن أخفف من حدة الخطأ الذي وقعت فيه العاملة، وأن الحادثة لا تستدعي كل هذا الغضب، ثارت الصغيرة التي لم تتم بعد عقدها الأول وقالت بأنها ستتقدم هي وزميلاتها بشكوى لمدير المدرسة وإن لم ينصفهن سيتوجهن بشكوى لوزير التربية والتعليم.
أخذت أفكر في الفارق الثقافي بين جيل امتلك من أدوات المعرفة والاطلاع ما لا يمكن حصره، وأجيال سابقة لم تعرف سوى أسلوب التلقين في فهم المعرفة العلمية والحياتية، لم يعد بالإمكان على الجيل الحالي أن ترغمه على السمع والطاعة دون أن تترك له مساحة كافية للحوار والنقاش، يكون المنطق والحجة أدوات الإقناع فيها، قديماً ما كنا نجرؤ على فتح حوار نخرج به عن النص الموجود في الكتاب مع مدرسينا، وكثيراً ما كانت تعيب علينا الأجيال التي سبقتنا بتقليصنا لهالة وقدسية المدرس، والمثال الأكثر شيوعاً في عقد تلك المقارنة، أن من سبقنا كان يضطر على سبيل المثال لسلوك طريق آخر غير الذي يسير فيه المدرس، وكان يعلل ذلك من باب الاحترام والتقدير، مؤكد أن ذلك لم يعد ضمن أدبيات الجيل الحالي، ولا يعني ذلك افتقارهم للقيم والمبادئ النبيلة التي تحافظ على مكانة المدرس واحترامه، لكن محدداتها تغيرت في ظل ثورة المعرفة التي تكفلت بها ما توصلت إليه تقنية الاتصالات.
إن انتقلنا من المساحة الصغيرة للمدرسة والعلاقة بين المدرس والتلميذ، لمساحة الوطن الأكبر والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، فلا يمكن أن نعزل ذات المشهد عن العلاقة التي تحكمهما، فلم يعد المواطن مجرد مستقبل عليه تلقي الأوامر وتنفيذها، دون أن يمحص تفاصيلها ويسترشد بالرأي والرأي الآخر، ويدافع عن قناعاته ضمن هامش حرية الرأي التي ينادي بها الجميع، ولم يعد حاكم اليوم يتمتع بالقدسية التي كان يتمتع بها حكام الماضي، وإن كنا نتحدث عن ثورات عربية أطاحت بأنظمة حاكمة، فيجب أن نتفهم جيداً أن حجم التغيرات التي أحدثتها لا يتوقف عند حدود تغيير الحاكم بل تصل بانعكاساتها إلى جوهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
في مصر على سبيل المثال تقدم يومياً عشرات البلاغات للنائب العام ضد قيادات في مواقع مختلفة بمن فيهم رئيس الجمهورية، قد يعتبره البعض بأنه نتاج للثورة ولكنه في حقيقة الأمر نتاج ثقافي تراكمي لإعادة صياغة ضوابط العلاقة بين مكونات المجتمع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت